هل عاشت الرواية؟ هل مات الشعر؟!

محمد حجيري
لا أدري إن كان جدل “زمن الشعر أم زمن الرواية”، يصل إلى مكان الآن. ففي كل مرة يعاد في صفحات الفايسبوك أو بعض المطبوعات، يتأرجح الكلام بين القول إن “الرواية ديوان العرب”، أو اعتبار “الشعر مات”، ويكون السؤال البائس والمستنزف: لماذا راجت الرواية على حساب الشعر؟ هل الأمر يتعلق بالجوائز المالية؟ ويحتج بعض الشعراء لماذا لا يخصصون جوائز للشعر؟ ومرات يكون الجواب لماذا راج الشعر في الزمن الثوري والايديولوجي؟ بات هذا الكلام ممجوجاً ومستهلكاً وما عاد يحمل نقاشاً حقيقياً…

جل ما انتبه إليه الآن أني كتبتُ ذات مرة مقالاً عن الشعراء الذين يكتبون رواية، فوضع له المحرر الأدبي عنوان “الجنس الثالث”، على اعتبار أننا دخلنا في متاهة “اللاجنس الأدبي”، هذا قبل طوفان الانترنت والمدونات وشذرات الفايسبوك… هل هناك “جنس ثالث” بالفعل في النصوص الأدبية؟ احسب أن الجواب على هذا السؤال يحتاج مطولات، ولا يرتبط السرد حوله بالمرحلة الراهنة، بل يعود إلى زمن الأسطورة والنص الديني ودون كيشوت… فالروائي والرسام الأميركي اللاتيني، آرنيستو سباتو، يقول “ما من رواية حقيقية إن لم تكن في المحصلة شعراً”، وهذا الكلام يمكن عكسه أيضاً، “ما من شعر حقيقي إن لم يكن في المحصلة رواية”.

وخلال رصدي للشعراء الذين يكتبون رواية، وفي مقدمهم الشاعر عباس بيضون، تبيّن لي أن الكثير من الروائيين، اللبنانيين على الأقل، بدأوا حياتهم الأدبية شعراء (منهم محمد أبي سمرا، رشيد الضعيف…) وحتى أن العشرات من الأسماء العربية البارزة كتبت الرواية والشعر، بدءاً من السوري محمد الماغوط صاحب “الأرجوحة”، مروراً بالعراقي يوسف صاحب “مثلث الدائرة”، وجبرا ابراهيم جبرا صاحب “شارع الأميرات” و”البئر الأولى” وشريك عبد الرحمن منيف في كتابة رواية “عالم بلا خرائط”، وسليم بركات صاحب “السيرتان”، وحتى محمود درويش كان قارئاً شغوفاً للرواية، وان لم يكتب الرواية لكنه كتب النص السردي اليومي القريب من الرواية، وهذا ما دلّ عليه كتابه “ذاكرة النسيان” الذي رسم فيه صورة عن حصار بيروت خلال الاجتياح الاسرائيلي في صيف 1982. حينما سأله الشاعر عبده وازن: “هل فكرت يوماً في أن تكتب رواية مثل كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية على هامش شعرهم؟”، أجاب: “مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتص الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها إلى أقصى الحدود”. وفي الحوار نفسه يتحدث درويش عن كتاباته النثرية قائلاً: “كتبت كثيراً من النثر، لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسمّيه نثراً. لكن لم أولِ النثر الأهمية التي يستحقها، علماً أنني من شديدي الانحياز إلى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد تكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من الشعر”.

وفي المجمل يبدو الشعر والرواية في تشابك سرمدي، وإن كانت الرواية اكثر انتشاراً الآن من الناحية الاستهلاكية، وإن كان بعض الروائيين الشعراء في اشتباك تنافسي. والحديث عن موت الشعر، مجرد كلام مجازي، استهلك في الزوايا الصحافية وأحاديث الشعراء والنظريات الجوفاء. ولا يختلف الأمر عن تمجيد زخم الرواية، فهو كلام استهلاكي على قارعة المواسم والجوائز، فكل نص جميل يأتي بوقته، ويحتفل به الزمن والأجيال ويتخطى الحواجر والاشتباكات، ويتخطى “نق” الشعر ونعيم الجوائر الروائية… في المجمل أيضاً، لا معنى للفصل بين الشعر والرواية… في العالم نعرف أن الروسي بوريس باسترناك واحد من أعظم شعراء القرن العشرين، عرف في الغرب بملحمته “دكتور زيفاكو” عن الاتحاد السوفياتي، وهي الرواية التي كتبها وأخرجها ديفيد لين فيلمًا بالاسم نفسه، وحصد بها خمس جوائز أوسكار، وتحولت “دكتور زيفاكو” أيقونة أو نجمة أدبية وطغت على معظم نصوص باسترناك الشعرية… أيضاً، عاشت الاميركية سيلفيا بلاث[1932 – 1963] سنوات صعبة بعد زواجها من الشاعر الإنكليزي تيد هوز، كتبت سيلفيا الشعر فكان ديوانها “آرائيل” (Ariel) من أهم الأعمال الشعرية في القرن العشرين، ونُشر بعد وفاتها بعامين، ولم تنشر سوى روايتها الوحيدة “الناقوس الزجاجي” العام 1962 تحت اسم مستعار، وتضمنت حياة شبه موازية لحياتها (صدرت في أكثر من ترجمة عربية). تقول بلاث: “كان الشاعر في داخلي دائماً مختفياً ولا أجده إلا حين يخطر له هو أن يحضر. وحين يحضر، يفعل ذلك غالباً لمهمّة كاملة، أي لمشروع كامل ولنصّ يملأ كتاباً. أغلب دواويني كانت نصّاً واحداً انشغل في الفترة ذاتها، وإن بدا أحياناً مقطّعاً إلى قصائد. لقد كتبت عدداً من مجموعاتي الشعريّة بين الروايات”. ومن يتأمل تجربة بلاث، يلاحظ أن وقع حياتها الزوجية وانتحارها كانا المعنى الذي سبق أعمالها الأدبية في الميديا.

وفي العالم، نجد الكثير من التجارب التي تتخطى مقولة التصنيف الأدبي، بدءاً من تشارلز بوكوفسكي وجاك كيرواك وبول أوستر وفيكتور هيغو وغونتر غراس وكازانتزاكي، وهيرمان هيسه، وكلهم بدأوا بالشعر. ولا يمكننا أن ننسى أيضاً روائيين كباراً، بدأوا حياتهم بكتابة الشعر، مثل جيمس جويس، صاموئيل بيكت، ويليام فوكنر وكافكا وكونديرا وغيرهم. ثم انتقلوا إلى عالم الرواية، ليظلوا فيه حتى النهاية… في تجربة جيل “البيتنكس” الأميركي، نجد تداخلاً بين الرواية والشعر واليوميات والأفلام. كتب كيرواك الرواية والهايكو، وكتب غينسبرغ القصيدة الأقرب الى القصة، واعتنى بروايات زملائه. لا يختلف الأمر في الحركة السوريالية، كتب اندريه بروتون الشعر وكتب الرواية ذات النفحة الشعرية. وفي البيان السوريالي الأول، وجه أندرية بروتون انتقاداً حاداً لشكل الرواية التي اعتبرها لعبة إخبارية مبتذلة، نوعاً من لعبة شطرنج حيث كل حركة تكون مرسومة مسبقاً، حيث يعرف المؤلف كل فعل يقوم به بطله معرفة تامة، لكن عندما ألقى بروتون محاضرة ثانية (بعد 20 سنة) عدّل في موقفه، وصار أكثر اعتدالاً وفتح المجال لتكون هناك رواية سوريالية يُمنح فيها الأبطال حرية استثنائية فلا يكون البطل مقيداً بحالة اجتماعية معينة،

هناك شعراء من المشرق مثل عباس بيضون، وعبده وازن، وأمجد ناصر، وعبدالقادر الجنابي، شارل شهوان، أنطون الدويهي، أنطون أبو زيد، سامر أبو هواش… ومن المغرب العربي مثل المنصف الوهايبي، وحسن نجمي، وياسين عدنان، ومحمد الأشعري… لمعوا في عالم الشعر، وقبلهم جميعاً، أمين الريحاني وجبران والمازني والكثير من رواد النهضة… والأسئلة التي تطرح هنا، لماذا بقيت الغالبية تصنّف عباس بيضون شاعراً فحسب، مع أنه كتب الرواية؟ ولماذا يقولون أمين الريحاني رحالة فحسب، مع أنه كتب الشعر؟ ولماذا لم تنفع عشرات النصوص النقدية في تكريس بعض الأسماء ضمن الروائيين؟

تقاربت الأجناس الأدبية، ولم يعد الحديث عن موت الشعر أو مستقبل الرواية، مجدياً. حتى نوبل، في سنواتها الأخيرة، بدت حائرة في اختياراتها، أعطت جائزتها الأدبية إلى البيلاروسية سيفتلانا ألكسيفيتش، صحافية أقرب إلى الروائية، قدمت شكلاً جديداً من الأدب يمزوج الصحافة بالسرد الروائي. وفاز بها أيضاً بوب ديلن، نجم موسيقي ليس بعيداً من مضمار الأدب، يكتب قصائد وإن كان هو يرفض اعتباره شاعراً، والقضية التي اثارت الجدل، أنه ليس كاتباً بحسب التقاليد المتعارف عليها. ويومها، سخر الروائي فارغاس يوسا، من الجائزة، قائلاً: هل ستمنح نوبل إلى لاعب كرة قدم في العام المقبل؟

أما الفائزان الأخيران بنوبل، النمساوي بيتر هاندكة، والبولندية أولغا توكاركوك، فهما بين الشعر والرواية وأمور أخرى. كان هاندكة يقول “يجب أن يدوسني الزمن أكثر لكي أستحق كتابة الشعر”، وتنوّعت إبداعاته بين كتابة الشعر، والرواية، والمسرحيات، والقصص القصيرة، والمقالات. لعبت صداقته مع المخرج الألماني، فيم فيندرز، دوراً كبيراً في تحويل مجموعة من رواياته إلى أفلام، منها: “خوف حارس المرمى من ضربة الجزاء”، و”المرأة العسراء”، و”أجنحة الرغبة”. أما توكاركوك، فتركت وظيفتها ونشرت أول ديوان شعري لها، وسرعان ما تبعته برواية “رحلة أهل الكتاب”، والتي تدور أحداثها في القرن السابع عشر بفرنسا وإسبانيا، حيث يبحث أبطال الرواية عن لغز أحد الكتب الغامضة في جبال البرنس.

قيل الكثير عن موت الشعر وتحول هذا الموت نمطاً من الشعر، هي ميتة مثل الميتات الثقافية كافة التي بات مفهوماً فيه الكثير من الرطانة. وقيل الكثير عن مستقبل الرواية ودورها، وهذا المستقبل أيضاً مقرون بالحديث عن موتها بالمعنى العميق أيضاً، فأن يدخل النص في دائرة الاستهلاك لا بدّ أن تكون محطته الأخيرة الأفول. وبمعنى مغاير، لا الشعر مات ولا الرواية ديوان العرب… المجد للأقوى، وثمة نصوص، سواء كانت روائية أم شعرية، لها سر ما، يجعلها أقوى في الحياة الثقافية، من “عواء” آلن غينسبرغ، إلى “أبي الهول” لأوسكار وايلد، ومن “عوليس” لجيمس جويس، إلى “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب الصالح.

وهذا مجرد تأمل، في جوانب أدبية، تحمل الكثير من الأوجه والتناقضات…

المصدر: المدن أونلاين

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

مقالات ذات صلة

علق على هذه المادة

التعليقات تعبر عن رأي صاحبها فقط ... كما يرجى الالتزام بالأداب العامة

1 + = 7