أشعلت التصرفات والتصريحات الرسمية الفرنسية المسيئة تجاه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- ثم السياسة التحريضية على الجمعيات والمؤسسات الإسلامية الشارعين العربي والإسلامي.
فاستمر وسم #مقاطعه_المنتجات_الفرنسيه الهاشتاج الأكثر تداولاً خلال الأشهر الثلاثة الماضية، علاوة على تسابق المغردين لنشر قائمة بالمنتجات الفرنسية الداعين لمقاطعتها.
وبدايةً فإن عملية المقاطعة تستهدف إحداث تغيير نسبي في مواقف الدول وسياساتها، إذ تتسبب في إضعاف الاستقرار الحكومي بعد تحمل منتجات الدولة ومنتجيها العنت والإرهاق نتيجة ركود المنتجات والاستغناء عن العمال. وليس من المتوقع أن يتحقق ذلك بين عشية وضحاها بل يتطلب الأمر مرور بعض الوقت حتي تظهر النتائج المرجوة.
كذلك ليس من المنطقي التهويل من النتائج المرجوة لا سيما في ظل عدم تبني أي دولة -بخلاف تركيا- رسمياً دعوات المقاطعة، وفي ظل الحرب الشرسة التي تخوضها الحكومات العربية وأجهزتها الأمنية ضد منظمات المجتمع المدني في العالم العربي، وكذلك في ظل عدم تبني نجوم السياسة والرياضة والمجتمع لهذه الدعوات، وهو ما قد يؤثر سلبياً على الوصول إلى الجماهير، علاوة على غياب الدعم المؤسسي والترويجي.
وترتبط فرنسا مع العالمين العربي والإسلامي بعلاقات تجارية كبيرة لا سيما مع دول الغرب والشمال الإفريقي، ويرجع ذلك إلى القرب الجغرافي والميراث الاستعماري، وتبلغ الصادرات الفرنسية إلى العالمين العربي والإسلامي ما يقارب 100 مليار دولار، مثلت قرابة خمس إجمالي الصادرات الفرنسية البالغة 555 مليار دولار عام 2019.
كما بلغت الصادرات الفرنسية إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2019 نحو 41 مليار دولار، جاءت تركيا -الدولة الوحيدة التي دعا رئيسها صراحة للمقاطعة- بالمركز الأول بقيمة 6.7 مليار دولار، تليها الجزائر والمغرب بنحو 5.5 مليار دولار تقريبًا، ثم قطر والسعودية بنحو 4.3 و3.6 مليار دولار بنفس العام، وهذا الحجم الكبير من الصادرات الفرنسية إلى الدول العربية والإسلامية يثبت إمكانية التأثير الموجع للمقاطعة على الاقتصاد الفرنسي.
وقد أثمرت المقاطعة المزيد من المتاعب الاقتصادية للدولة الفرنسية التي تعاني بالفعل مصاعب كبرى من تداعيات كورونا، بحسب تقديرات أولية نشرها مؤخراً المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء سجّلت فرنسا في 2020 ركوداً قياسياً هو الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.
فبعد تسجيل معدل نمو بلغ 1.5% في 2019، من بين المعدلات الأعلى بمنطقة اليورو، تراجع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 8.3% كما تراجع الاستثمار بنسبة 9% وتراجعت الصادرات بنسبة 16.7% والواردات بـ11.6% مقارنة بمتوسط عام 2019، هذا بالإضافة إلى انهيار استهلاك الأسر بنسبة 7.1% على المجمل العام.
كما تزايد عجز الميزان التجاري الفرنسي بصورة غير مسبوقة في أغسطس/آب 2020 ليبلغ7.7 مليار دولار، مقارنة بعجز بلغ 7 مليارات و8 مليارات يورو في الشهرين السابقين، وجاء تزايد هذا العجز نتيجة لانخفاض الصادرات بنسبة 6% أي بنحو 35 مليار يورو، مع تزايد الواردات بنسبة 1.1% لتبلغ 43.1 مليار يورو وهو المستوى الأعلى منذ فبراير/شباط 2020.
وكنتيجة لهذه التداعيات يواجه القطاع الصناعي الفرنسي موقفاً حرجاً للغاية. وهو القطاع الذي يساهم بنحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي، كما يقوم بالدور الأكبر في توفير فرص العمل والعمود الفقري للصادرات.
وكان هذا التأثير واضحاً على شركة “رينو” عملاق صناعة السيارات التي اضطرت إلى تسريح أكثر من 15 ألف عامل في مصانعها حول العالم، كما وقفت إنتاج السيارات بالعديد من المدن الفرنسية، وعلقت كذلك مشاريع زيادة الإنتاج بالمغرب ورومانيا وتركيا وكوريا وروسيا، وذلك في إطار خطة لتوفير أكثر من مليارَي يورو خلال ثلاث سنوات، وكل ذلك رغم خمسة مليارات يورو قدمتها الحكومة الفرنسية مساندة لها في بداية الأزمة.
كما اتخذت دانون للصناعات الغذائية قراراً بالاستغناء عن نحو 2000 عامل بمصانعها في فرنسا وفي الخارج، ما دعا المفوض السامي الفرنسي للتخطيط، فرنسوا بايرو، للإعلان أن «جهاز الإنتاج» في فرنسا يواجه «وضعاً حرجاً»، مؤكداً أن «إطلاق استعادة الجهاز الإنتاجي الفرنسي سيكون التحدي الأكبر للعقد المقبل».
ورغم التشكيك بجدوى المقاطعة نشرت رويترز تقريراً يؤكد أن مصالح فرنسا الاقتصادية باتت “على المحك” بعد تصاعد الدعوات لمقاطعة منتجاتها في العالم الإسلامي. ومما يزيد من فاعلية المقاطعة كذلك أن معظم السلع المستهدفة سلع استهلاكية يومية للمواطن العادي وتوجد لها بدائل محلية أو من دول إسلامية أو عربية أخرى، الأمر الذي يضفي أهمية كبيرة على التحركات الداعية للمقاطعة على الرغم من التقاعس الرسمي للدول.
لا يجب أن نهول من النتائج التي حققتها المقاطعة حتى الآن، ولا يجب كذلك أن نهون منها ونثبط من همة الجماهير التي تفاعلت معها، فيكفي إحياء فكرة الفعل الجمعي على مستوى الأمة هدفاً محورياً تجب تنميته والبناء عليه، وهو الهدف الذي سيحارَب بشدة من الحكومات التي تخشى قوة اتحاد الجماهير حول فكرة ربما تتطور مستقبلاً إلى مواقف جماعية ضد استبدادهم.
كما يجب أن نحذر كذلك من تثبيط المستغربين من بني جلدتنا الذين يقللون من قيمة أي ردة فعل تجاه الغرب ويصرون علي الانبطاح الكامل لأمتهم، ويجب ألا ننخدع بتصريحات الحكومة الفرنسية واستمرارها في الغلو، فهم والأوربيين من خلفهم يخشون استيقاظ مارد الجماهير المسلمة وأخذهم بزمام المبادرة والفعل.
هزت دعوات المقاطعة غير الرسمية الاقتصاد الفرنسي وأشعرت الجماهير المسلمة بأهمية اتحادها، ولا تزال الجهود متفرقة وتحتاج إلى جهات مؤسسية راعية تشتبك إيجابياً مع القضايا الفرعية للمقاطعة وتنظم زواياها المختلفة المتعلقة بالجوانب الشرعية والاقتصادية، علاوة على التشبيك مع مؤسسات العمل الأهلي ومجتمعات رجال الأعمال والغرف التجارية والاتحادات النوعية بخاصة اتحادات العمال، الأمر الذي يضمن الوصول إلى أكبر قاعدة جماهيرية ممكنة.