همس نيوز ـ متابعة
بالتزامن مع الذكرى الـ567 لفتح القسطنطينية على يد العثمانيين يوم 29 مايو/أيار 1453م، عاد الجدل الثقافي والسياسي في تركيا بشأن “آيا صوفيا” التي صممت في البداية لتكون كنيسة مسيحية في القرن السادس وأعتبرت أعجوبة العالم الثامنة بقبتها المميزة التي يبلغ قطرها 31 مترا، إذ قارن البيزنطيون دخولها برحلة إلى السماء.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس الخيمس إن سورة الفتح ستُقرأ في آيا صوفيا في إطار الاحتفالات السنوية بفتح القسطنطينية، معيدا للأذهان تعهده الذي أثار انتقادات غربية حادة العام الماضي بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، معتبرا ذلك “مطلبا يتطلع إليه الشعب التركي والعالم الإسلامي منذ سنوات”.
وظلت آيا صوفيا مركزا للمسيحية الأرثوذكسية حتى عام 1453م، عندما فتح الأتراك العثمانيون المدينة تحت حكم السلطان محمد الثاني، المعروف باسم الفاتح، وبعد 916 عاما من الخدمة كنيسةً، تحولت إلى مسجد جامع يرمز للنصر والفتح، وعلى الرغم من ذلك، لم يجر تدمير فسيفساء الكنيسة المميز، بل تمت تغطية الرسوم والأيقونات المسيحية بالجبس التي ظهرت من جديد بعد ترميم الكنيسة في القرن العشرين.
وعقدت في آيا صوفيا صلاة الجمعة الأولى بعد فتح القسطنطينية، واستخدمت مسجدا لمدة 482 عاما، واعتبرت جوهرة العالم الإسلامي، لتعرف باسم “المسجد الكبير”، وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية تمّ تحويلها إلى متحف في عام 1935، ومنذ ذلك الحين لم ينقطع الجدل بين المؤرخين والمثقفين والسياسيين في تركيا بشأن مصير درة عمارة إسطنبول العريقة.
ويدور النقاش المستمر بين مؤيدي أن تبقى متحفا تاريخيا مثلما هي حالها الآن، وبين من يريد إعادتها جامعا كبيرا عملا بوصية السلطان العثماني محمد الفاتح.
تاريخ طويل ومعقد
وخلال فترة حكمه البالغة 38 عاما (من 527م إلى 565م)، عمل الإمبراطور الروماني الشرقي جستنيان الأول على تحقيق التعايش بين الطوائف الأرثوذكسية المتنازعة داخل الكنيسة الشرقية، ونظم القانون الروماني في مدونة لا تزال مؤثرة في القوانين الحديثة، وتوّج إنجازاته بدرة العمارة القديمة التي بناها غير بعيد عن قصره، لكنها لم تحتو على أي من الفسيفساء التصويرية (الأيقونات) الرائعة في البداية.
وبحلول القرن التاسع الميلادي ومع صعود تيار مسيحي يتمسك بالصور والأيقونات الدينية، كُلفت مجموعة من الفنانين برسم الملائكة والأباطرة وتمثيل المسيح الذي يطل على القبة الكبيرة، ورغم أن العديد من هذه الصور فُقدت في أوقات قديمة، فقد بقيت الكثير منها أيضا في البناء العريق رغم تحولاتها العديدة من كنيسة إلى مسجد فمتحف.
ولأكثر من 900 عام، كانت آيا صوفيا أهم مبنى في العالم المسيحي الشرقي: مقر البطريرك الأرثوذكسي، نظيرا لبابا الكاثوليكية الرومانية، وكذلك الكنيسة المركزية للأباطرة البيزنطيين، ويقول روجر كراولي، مؤلف كتاب “1453: الحرب المقدسة للقسطنطينية وصدام الإسلام والغرب”: آيا صوفيا لخصت كل ما كان عليه الدين الأرثوذكسي.. بالنسبة لليونانيين، كان يرمز إلى مركز عالمهم. كان هيكلها ذاته صورة مصغرة من السماء، استعارة للأسرار الإلهية للمسيحية الأرثوذكسية.
وجاء الزوار من جميع أنحاء العالم المسيحي الشرقي لمشاهدة أيقوناتهم، التي يعتقد أنها تعمل معجزات، ومجموعة لا مثيل لها من الآثار المقدسة. داخل مقتنيات الكاتدرائية كانت القطع الأثرية المزعومة تشمل قطعا مما اعتبر “الصليب” الحقيقي، وغصن الزيتون الذي حملته الحمامة إلى نوح عليه السلام بعد الطوفان، وسترة المسيح “تاج الشوك”، ودم المسيح نفسه. يقول كراولي “كانت آيا صوفيا هي الكنيسة الأم، فهي ترمز إلى أبدية القسطنطينية والإمبراطورية إلى الأبد”.
في 28 مايو/أيار 1453 دخل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر آيا صوفيا (كنيسة الحكمة الإلهية) للصلاة الأخيرة، كانت القسطنطينية تحت الحصار، ولم يكن مصير الكاتدرائية العظيمة واضحا. صلى الإمبراطور هناك قبل أن يعود إلى أسوار المدينة، حيث نسّق جهود الدفاع ضد جيش محمد الثاني، الذي سيصبح الفاتح مع نهاية اليوم.
بينما اصطدم الجيشان بقوة قبل أن تحسم نتيجة المعركة، كان هناك شعور بالقلق والترقب مما ستؤول إليه الكنيسة التي بناها أكثر من 10 آلاف عامل بأمر من الإمبراطور جستنيان، الذي أراد أن تؤرخ لعظمة الكنيسة الشرقية وتصبح مقر البطريرك الأرثوذكسي.
وفي اليوم التالي، دخل السلطان الفاتح المدينة، وسار مع جيشه على الفور إلى آيا صوفيا، وتفيد الروايات البيزنطية بأن السلطان نزل على باب الكنيسة وانحنى لأخذ حفنة من التراب ووضعها على رأسه، في عملٍ يرمز للتواضع أمام الخالق، وفي القرون الخمسة التي أعقبت هذا العمل الرمزي، استمر تألق آيا صوفيا بوصفها أكبر مبنى ديني للإمبراطورية العثمانية وأضيف إليها أربع مآذن تخدم أيضا غرضا معماريا وتحمي المبنى من الانهيار على نفسه.
تحولات قديمة وحديثة
وتقول روايات مؤرخين أوروبيين إن السلطان الفاتح كان مثقفا يتكلم أربع لغات على الأقل، ورعى فنانين إيطاليين مثل الفنان الشهير جنتيل بيليني، الذي رسمه كشخصية ملتحية ومتألقة مغمورة في رداء ضخم، وشبهه كراو بالإسكندر الأكبر أو يوليوس قيصر.
بوتريه السلطان محمد الفاتح من أعمال الفنان الإيطالي جنتيلي بلليني (ويكي بيديا)
وبعد قرون، وفي عام 1935، تغيّر دور آيا صوفيا مرة أخرى بعد 12 عاما من تأسيس الجمهورية التركية، حين وقع الرئيس مصطفى كمال أتاتورك قرارا حوّل آيا صوفيا إلى متحف علماني. ووفقا لموسوعة الإمبراطورية العثمانية، فإن قرار أتاتورك لم يحوّل آيا صوفيا إلى “قطعة أثرية من الماضي” فحسب، بل جعلها “موقعا للذاكرة بدلاً من كونها رمزا للتجربة الدينية الحية”، وأصبحت بذلك المعلم السياحي والأثري الأبرز في تركيا الحديثة.
ولا تبدو تحولات آيا صوفية الثقافية والسياسية على مر القرون مختلفة عن تحولاتها المعمارية، فقد أضيفت المئذنة الأولى لهيكل الكنيسة عام 1481م، وأقيمت مئذنة أخرى في عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي تولى العرش بعد السلطان الفاتح، ودمر زلزال كبير وقع في إسطنبول عام 1509 المئذنة الأولى لتبنى أخرى بدلا منها.
وبنيت مئذنتان أخرييان خلال أعمال إعادة البناء والترميم التي قام بها معمار سنان في عهد السلطان سليم الثاني، ولهذا السبب تختلف مآذن آيا صوفيا الأربعة المبنية في أوقات مختلفة عن بعضها بعضا.
وأصبح قبر سليم الثاني أول قبر سلطاني في آيا صوفيا التي تضم أيضا 43 قبرا لسلاطين وزوجاتهم وأمراء. وفي عام 1739، أضيفت مدرسة ومكتبة ومطبخ إلى المسجد. وافتتحت آيا صوفيا، التي أُغلقت خلال أعمال التجديد بين عامي 1847 و 1849، بوصفها مسجدا للمرة الأخيرة في عام 1849.