عبد الحميد صيام
قررت أن أتحدى الحظر المفروض علينا منذ نحو أسبوعين، وأن أطوف في شوارع مدينة نيويورك، أو التفاحة الكبيرة، كما تسمى هنا، والتي تشدنا لسحرها وجمالها وتنوع سكانها وجمال حدائقها وثرواتها الفنية والثقافية، التي لا حدود لها. فمن يعيش في مدينة نيويورك يعتقد أن كل المدن قرى.
لقد شاهدت معظم المدن الكبرى في العالم، لكنني لم أعثر على مدينة بمثل هذا السحر والغنى والجمال والتنوع. إنها عاصمة العالم المالية والدبلوماسية والسياحية.
وبعد أن أخذت كافة الاحتياطات ووعدت أهل الدار أنني لن أخرج من السيارة، فأنا بالفعل اشتقت للمدينة الكبيرة، التي كنت بعيدا عنها مؤخرا لأكثر من شهرين، وبدل أن أعود جذلا إلى جناح الصحافة في مقر الأمم المتحدة، وجدت نفسي محشورا في البيت، أتابع أخبار المدينة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها. أحسست بدافع قوي يشدني إلى التجول في حيّ منهاتن، لأشاهد بعيني حالة المدينة التي تضم عشرة ملايين ساكن، وأربعة ملايين إضافية يدخلونها يوميا عاملين وزوارا.
وأنا أتجول في المدينة مصدوما مما أرى، تذكرت الآية الكريمة التي تقول: «كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها». فكيف لفيروس يحتاج أن تكبره بالمجهر 500 مرة لتستطيع العين أن تراه، ينتصر على هذه المدينة الكبيرة، بل على الدولة الأعظم في العالم، ويُقعد الناس في بيوتهم، ويغلق محلاتهم، ويفرغ شوارعهم، ويشل حركتهم.
مدينة تنبض بالحياة ليلا ونهارا تتفاخر بمسارحها العظيمة في برودواي ومتاحفها النادرة، ومكتبتها الأضخم ربما في العالم، وحديقتها المركزية الكبرى، ومركز لنكولن وروكفللر وبناية الإمبير ستيت وأخواتها من العمارات الشاهقة، التي تتسابق نحو الذرى، كل واحدة تريد أن تزيد المدينة بهاء وجمالا، إلا أنها الآن تنحني أمام الفيروس، وتسلم مفاتيحها وتختبئ في جحورها، ولا تسمع في شوارعها إلا صفارات سيارات الإسعاف المخيفة، وهي تنقل المصابين إلى غرف الطوارئ بالمستشفيات.
لقد احتلت الولايات المتحدة المركز الأول في عدد المصابين بوباء كورونا، واحتلت مدينة نيويورك الرقم الأعلى في البلاد، واحتل حيّ كوينز في المدينة الرقم الأعلى بين أحياء المدنية الخمسة. فمدينة نيويورك هي الأكثر سكانا وازدحاما في الولايات المتحدة، حيث تصل نسبة السكان إلى 28000 شخص في الميل المربع الواحد، تليها مدينة سان فرنسيسكو، حيث تصل النسبة إلى 17000 نسمة.
وأود أن أنقل بعض الصور والملاحظات من حياة المدينة وهي تعيش أحلك أيامها تحت قبضة الوباء اللعين، الذي قد يكون في أيامه الأولى ولا نعرف أين تتجه البلاد، التي أظهر هذا الفيروس هشاشتها المعيبة.
في مقر الأمم المتحدة ترتفع أعلام الدول الأعضاء الـ193 بالإضافة إلى علمي فلسطين والفاتيكان بين شارعي 42 و47 في الجادة الأولى. لكن المقر الآن خال من الموظفين والدبلوماسيين والزوار والصحافيين، كأنه أرض بلقع. يضم المقر في نيويورك نحو ستة آلاف موظف. أضف إليهم آلاف الدبلوماسيين الذين يمثلون بلدانهم، إضافة إلى مئات الصحافيين المعتمدين من كل وسائل الإعلام الكبرى في العالم.
كان المقر يستقبل يوميا نحو 11000 شخص، انخفض العدد الآن إلى نحو 79 شخصا فقط معظمهم يعملون في أمن البناية، وضمان شبكة الاتصالات مع العالم، وترتيب الاجتماعات الرسمية والمؤتمرات الصحافية للأمين العام والمسؤولين الكبار، التي تعقد الآن كلها عن بعد، وعن طريق شبكة الفيديو. ومقر الأمم المتحدة يضم عددا من المعارض الدائمة واللوحات الثمينة والصور النادرة. الأمانة العامة للمنظمة الدولية تعتبر إحدى معالم المدينة، حيث تستقبل من الزوار سنويا نحو مليوني زائر.
كما يضم المقر حديقة مشهورة تضم العديد من المجسمات، وحديقة الكرز الضخمة وبستان الورود. انتابني شعور بالأسى وأنا أقف قرب المدخل الرئيس الموصد تماما إلا من حارسين يقفان متباعدين، لضمان عدم دخول أحد في هذه الأيام العصيبة، بعد أن تأكد أن ما لا يقل عن 88 موظفا دوليا أو دبلوماسيا أصيبوا بالوباء.
ويبلغ عدد قوات الشرطة في المدينة نحو 36 ألف شخص، من بينهم، الآن، 6172 خارج الخدمة بسبب احتمال إصابتهم بكورونا. وقد تبين أن نحو 1200 منهم مصابون فعلا بالوباء، توفي منهم ثلاثة لغاية الأربعاء الماضي. وبسبب نقص الأعداد أضيفت مهمات إضافية إلى القوات الفاعلة.
فقد طلبت قيادة الشرطة متطوعين للمساعدة في مهمات بسيطة، من بينها إنشاء وحدة خاصة لجمع كبار السن الذين يموتون في بيوتهم بسبب الوباء. لقد بلغ عدد الأموات الذين يبلّغ عن وفاتهم في بيوتهم بسبب العزل والخوف من المرض بين سبعة وتسعة أشخاص في كل نوبة عمل تمتد لثماني ساعات. لقد أصبحت ظاهرة الموت في الشقق مقلقة لقيادة الشرطة، لكن ليست لديهم القدرة في ظل ظروف الطوارئ الحالية للتعامل معها، إلا من خلال إنشاء وحدة تقوم على المتطوعين.
الشيء الإيجابي، الذي نتج عن الوباء، هو انخفاض عدد الجرائم بشكل ملحوظ في المدينة الكبيرة. وتفسير ذلك أن السرقات أسهل في مناطق الازدحام، وبقاء المحلات والمطاعم مفتوحة لساعات طويلة خلال الليل، ووجود ملايين السياح الذين يتجولون في المدينة، وهذه أمور غير متيسرة الآن.
والنوع الثاني من الجرائم المنتشرة هو اقتحام بيوت العاملين والموظفين، الذين يتركون بيوتهم ساعات طويلة، فيتم رصدها واقتحامها. أما هذه الأيام فمعظم السكان في بيوتهم، لكن نوعا من الجرائم الصغيرة بدأ يأخذ مسارا واسعا وهو سرقة السيارات، التي تركن في مكان واحد لعدة أيام. يبحث لصوص السيارات عن أي شيء قد يعثرون عليه داخلها، من عملات وأدوات وشواحن وغيرها. لكن انتشار الشرطة في كل الشوارع والزوايا جعل مهمة اللصوص أصعب بكثير.
ومن بين 216000 مصاب بوباء كورونا في الولايات المتحدة لغاية مساء الأربعاء الماضي، يوجد نحو 83.984 في مدينية نيويورك بأحيائها الخمسة المكتظة، التي شهدت موت نحو 1400 شخص لغاية الآن، ولم تعد المستشفيات تستوعب المصابين. طلب من كل الأطباء بكافة تخصصاتهم التحول إلى أقسام علاج كورونا.
في البداية خصص كل مستشفى جناحا، أو طابقا للمرضى، ثم أضيف جناح ثان فثالث، حتى لم يبق إلا جناح واحد أو اثنان لبقية الحالات مثل الولادة والسرطان. مستشفى «ستاتن آيلند الجامعي» سيخلي جميع مرضى المستشفى من غير الكورونا، وينقلهم مع نهاية الأسبوع إلى سفينة ترسو في ميناء نيويورك فيها ألف سرير طبي، ويبقى المستشفى بكامله مخصصا للمصابين بكورونا.
وبسبب تفاقم عدد الموتى، تجد أمام كل مستشفى عددا من الشاحنات البيضاء التي تحولت صناديقها إلى ثلاجات كبيرة للموتى لنقص عدد الأسرة، ولإخلاء الموتى لاستقبال مرضى آخرين. كما نصبت في موقف سيارات المستشفى الأمامي خيمة كبرى لاستقبال حالات الطوارئ، لنقص في الأسرة داخل المستشفى. هذا ما تأكدنا منه في مستشفيات لوثرن وميثودست وستاتن آيلند.
وفي مستشفى ماونت سيناء يوضع المرضى في الممرات. لم تعد مستشفيات نيويورك، التي يزيد عددها عن 32 مستشفى رئيسا تستوعب المصابين. أنشأت المدينة مستشفى ميدانيا في حديقة نيويورك المركزية، لكن هذا لا يكفي. وطلب من كل مستشفى أن يوسع قدراته الاستيعابية، لكن الأوضاع مقبلة على كارثة كبرى، حيث تتجه الأزمة نحو الذروة بداية من 5 إبريل كما أعلن عمدة المدينة بيل دي بلاسيو.
وقال إن المدينة ما زالت بحاجة إلى أكثر من ثلاثة ملايين كمامة طبية، ومليوني كمامة للعمليات الجراحية و 100000 روب عازل و400 جهاز تنفس، ومع نهاية إبريل تحتاج المدنية إلى 65000 سرير إضافي. باختصار مدينة نيويورك مقبلة على كارثة كبرى قد يصل عدد الموتى فيها إلى عشرات الألوف في الأسابيع القليلة المقبلة.
بعد هجمات 11 سبتمبر، بدت المدينة كئيبة خائفة مهزومة مثل هذه الأيام، لكن المسؤولين كانوا يحضون الناس على الخروج والعودة إلى حياتهم الطبيعية بسرعة، كي لا تستقر الهزيمة والخوف في القلوب. وما هي إلا أيام معدودة حتى بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها رغم الجراح. أما اليوم فالعكس هو الصحيح. المطلوب من الناس جميعا أن يختبئوا في بيوتهم، وأن يتعودوا على العزلة والابتعاد عن التجمعات والمناسبات، وإلا فالوباء واصل لا محالة.
الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون خارج الولايات المتحدة، هو انتشار ظاهرة التطوع لمساعدة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء، ففي كل حي وشارع انتشرت لجان المتطوعين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ونشعر بالفخر ونحن نتابع أنشطة أبناء الجالية العربية، وهم يوزعون الكمامات ويقدمون الأغذية ويقومون بالتسوق لكبار السن، ويعطون دروسا مجانيا للطلاب ويقدمون النصائح الطبية باللغة العربية، ويتركون أرقام هواتف مراكز التطوع، لتقديم المساعدات الطارئة للسائلين. الأيام الصعبة مقبلة، وكان الله في عوننا جميعا.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
المصدر: القدس العربي