أبو منيب التليدي
ليس من عادة المجتمعات أن توضع في محك تحدي الأوبئة والأسقام الخطيرة التي تتنقل بالعدوى وتخترق الحدود، فالتاريخ يؤكد بأن ورود مثل هذه الأوبئة بالشكل الذي يمثله فيروس كورونا، إنما يرد مرة في القرن أو مرتين على أكثر تقدير، وليس ثمة خبرة بشرية متراكمة في التعامل مع هذه الأوبئة يمكن الركون إليها بحكم التغير المتسارع الذي تعرفه المجتمعات، فالطريقة التي كان يتنقل بها الناس قديما تختلف عما يجري اليوم من حركية واسعة ومطردة للبشر والسلع على حد سواء، كما أن تطور الإنتاج ووسائله، وتطور المهن والتشابك الذي حصل في المجال الاقتصادي والاجتماعي، زاد من تعقيد المشكلة، وتعسير مهمة المواجهة، مما يجعل الدولة والمجتمع، بل النموذج الثقافي المجتمعي برمته في محك الاختبار.
ولأن العلماء يشكلون جزءا من قيادة المجتمع، بحكم الدور التأطيري والقيادي والتوجيهي الذي يقومون به، فإن مهمتهم هي الأخرى أضحت ربما أكبر من مهمات المثقفين والمفكرين، ربما أكثر من مهمة النخب السياسية التي تتولى إصدار القرارات الاستراتيجية المتعلقة بسبل مواجهة هذا الخطر،، إذ المشكلة ليست في إصدار القرارات التي تناسب الدرجة التي وصل إليها خطر الإصابة بهذا المرض، وإنما هي في توفير الجاهزية المجتمعية للانخراط في هذه القرارات، بل وتهييء الوقاية التي تمنع تطور دينامية انتشار المرض من درجة إلى أخرى أشد وطأة منها.
من التفسير إلى تأصيل مبادئ الحجر الصحي
عادةُ بعض العلماء، أنهم كلما نزل وباء أو مرض عضال بمجتمع ما، تسابقوا إلى تقديم تفسير ديني له، فبعضهم يسارع الخطو للزعم بأن هذا البلاء هو عقوبة للكفار وعذاب دنيوي نزل بهم، فيما البعض الآخر يرى أنه بلاء من الله نزل به بسبب فعل العصاة واجترائهم على الله، وهم في ذلك لا يعدمون النص الديني الذي يحتجون به على تفسيراتهم، غير أن العلماء المحققين، كما يرى ذلك حسن الموس نائب المدير العلمي لمركز المقاصد للدراسات والبحوث، يتريثون أو يتحفظون في تفسير الوباء، ولا يسارعون إلى الجزم بأنه نزل عقوبة للكفار أو العصاة، ولا بلاء للمسلمين وامحتانا لهم، فيقرؤون النصوص الواردة في هذا الشأن، ولا ينزلون نفسهم منزلة الله في الحكم على سبب الوباء، فإذا كان تفسير النصوص للوباء يختلف من حالة لأخرى، من نزول العذاب، ومعاقبة العصاة، وابتلاء المؤمنين، وتطهير ذنوبهم، فإن المحققين من العلماء لا يتدخلون في إرادة الله، ولا يؤولون مراده بما ليس قطعيا ثابتا عندهم، إذ المرض والوباء في الشرع هو ابتلاء وامتحان، والبلاء يكون بالخير والشر، ولا تعلم المقاصد الإلهية منه، ولا يعلم أي واحدة مما ذكرته النصوص هي المتعينة بنزول هذا الوباء أو ذاك، ولا يعلم الحكمة من وراء ذلك وما إذا كان الله يريد بها تحقيق بعض المصالح أو درء بعض المفاسد.
ويرى حسن الموس أن واجب الدين في التعاطي مع الوباء ليس هو تفسيره، وبيان السبب الذي لأجله نزل، وإنما منهج الدين هو المساهمة في مواجهته، والتحلي باليقظة والحذر وتوسل كل السبل التي تعين على تجنب انتشاره وإذاية الخلق به، فإذا كان النبي صرح في نص الحديث أن لكل داء دواء، وأنه كما خلق الله الداء خلق الدواء، فإن واجب المسلمين هو السعي للبحث عن الدواء واللقاحات التي تعين على العلاج من هذا المرض، والتوجه للدعاء بالتخفيف على المسلمين وغير المسلمين.
فالرسول عليه السلام، كما يرى ذلك الشيخ حماد القباج، نص في حديث صريح في كتاب الطب من صحيح البخاري، أن “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها”، فبين الحديث، يضيف القباج، منهج الدين في التعامل مع الوباء المعدي، سواء في الحالة التي ينزل بها على أقوام آخرين، أو في حالة نزوله بالمسلمين في أرضهم.
ويرى الشيخ حماد القباج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر مبادئ الحجر الصحي وبين مشروعيته في الإسلام. فمع أن التنقل والسفر حق من حقوق الإنسان وحرية لا ينبغي المساس بها، يضيف القباج؛ لكن انتشار الوباء في بلد يشكل استثناء، ويوجب على الفرد أن يفرض على نفسه نوعا من الحجر، كما يجب ذلك على الدولة، وهو ما طبقه الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، حيث كان في سفر متجها إلى الشام وبرفقته وفد رفيع المستوى يضم عددا من كبار الصحابة، فلما اقترب من البلد المقصود، استقبله أحد الأمراء وقال، إن في البلد طاعونا، فاستشار الصحابة فقالوا له: ندخل إلا عبد الرحمن بن عوف قال: لا ندخل. واستدل بالحديث، فأخذ عمر برأي عبد الرحمن لوضوح دليله، فقيل له: “أتفر من قدر الله”؟ فقال: “نفر من قدر الله إلى قدر الله”، وفيه تأكيد لما هو متقرر في الإسلام من أن اتخاذ أسباب الوقاية والعلاج لا يتنافى مع الإيمان.
العلماء في طليعة الموجهين لمبادئ الوقاية الصحية
يرى الدكتور حميد عنبوري المتخصص في علم مقاصد الشريعة، أنه ليس هناك أي حرج في تعامل العلماء مع توجيهات المنظمة العالمية للصحة، فمثل هذه التوجيهات التي تصدر من الجهات المتخصصة، ويكون قصدها الحفاظ على صحة المواطنين وضمان مبادئ السلامة الصحية، أولى بالعلماء أن يبادروا إلى نصح الأمة بها وضرورة التزامها، خاصة أنها تتقاطع مع الدين، بل سبق الإسلام إلى تقريرها، بل هي مناسبة لبيان صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها جاءت متضمنة للمبادئ التي تضمن الصحة العامة للمواطنين.
هناك باب كبير في الطهارة في الفقه الإسلامي، يتحدث عن السلامة الصحية، دين نظافة ودين طهارة، وأرسى مبادئ الصحة. وذكر حميد عنبوري، أن النبي صلى الله عليه وسلم استغنى عن مبايعة رجل معدوم بالمصافحة وفضل المشافهة خشية العدوى، فالمسلم، كما يرى الدكتور حميد عنبوري، لا يجد أي حرج في أن يتمثل النصائح والتوجيهات الصحية التي تدعوه إلى غسل اليدين بالماء والصابون كلما تعرضت يده للمس بعض السطوح خارج البيت، بل إن وضوءه للصلاة خمس مرات أو أكثر في اليوم، من موجبات السلامة الصحية، بل إن المسلم، بمقتضى الدين ونصوصه، إن أصيب بزكام أو حمى، فهو ملزم بترك المسجد وأي تجمع يمكن أن يفضي إلى إيذاء خلق الله، فلا حرج عليه في الدين في لزوم بيته حتى يشفى من علته، فورود المريض على الصحيح، إن كان سيؤدي إلى علته قطعا، أو بغلبة الظن، فالمتعين شرعا، ترك المسلم لأي مكان يتجمع فيه الناس خوفا من إلحاق الضرر بهم.
العلماء في طليعة المتصدين للأخبار الزائفة المثيرة للفتنة في المجتمع
على أن المشكلة في أثناء انتشار الوباء، لا تتعلق فقط بحدة المرض وإمكان انتقاله والتوجيهات التي يطلب من النساء التقيد بها، فقد تعاظمت التحديات في الآونة الأخيرة بسبب الإمكانات التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، فصار الوباء يأخذ أبعادا خطيرة بسبب انتشار بعض الأخبار الزائفة التي تنشر الفتنة وتقوض الجاهزية المجتمعية في التعامل مع هذا الوباء، ويرى الدكتور صالح النشاط في الفكر الإسلامي وخطيب مسجد التازي بالرباط، أنه إذا كان من واجب المسلم في كل وقت أن يتبين الخبر قبل نشره وإذاعته، فإن تشديد الشرع على بث المعلومات الخاطئة التي من شأنها إثارة ذعر الناس وهلعهم، يكون أكثر في حالات انتشار الوباء، لأن الناس يكونون في أشد الحاجة للطمأنينة، وأن هذه الأخبار الزائفة تزيد من فتنتهم، وتضعف قدرتهم على التعامل اليقظ مع الوباء.
ويسجل الدكتور أحمد كافي المتخصص في علم أصول الفقه، انتشار مجموعة من الأخبار الزائفة حول وباء كورونا، ويرى أن من واجب العلماء التصدي لها ولكل من يتلاعب بالعقول، وذلك بنصح استقاء الأخبار من مصادرها الموثوقة، والأخذ بما يقول به الأطباء المتخصصون والخبراء في مجال الصحة العمومية، واتباع التوجيهات التي تقررها القيادة الصحية في البلاد.
العلماء يبثون خطاب السماحة ويحاربون العنصرية والشماتة بغيرهم
يرى الدكتور حميد عنبوري أن مبادئ الدين سمحة، وأن الإسلام جاء لجميع البشرية، وليس من مقاصده الشماتة بالناس ولا تمني الدمار للبشرية أو لجزء منها، وينتقد الشيخ سلوك البعض ممن يشمت بما حصل للناس في الصين أو في إيطاليا أو فرنسا أو إسبانيا، ويرى أن مبادئ الإسلام السمحة، لا تسوغ الشماتة في البشر، ولا تمني الشر لهم، ولا شحذ نوازع الانتقام من الشعوب الأخرى لمجرد سياسات حكامهم، بل المقرر شرعا، إرساء مبادئ الإغاثة للبشر مهما اختلفت ديانتهم، وتحريم الشماتة بهم.
ويرى حميد عنبوري تعليقا على بعض الفيديوهات التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي تشمت في المسلمين، الذين اختاروا الاستقرار في بلاد الغرب وصاروا مهددين بالإصابة بالوباء بفعل انتشاره الكثيف في بلدان مهجرهم، أن ليس من قيم الإسلام الشماتة بهؤلاء، ولا نفي الصلة بهم، بل المقرر شرعا، البر بهم والإحسان إليهم والدعاء لهم، واعتبارهم منا ونحن منهم، محذرا من انتشار خطاب العنصرية باسم الدين، وأن الدين براء من هذه الخطابات التي تنبذ مبادئ السماحة الإسلامية.
العلماء في طليعة مواجهة مستغلي الوباء من المضاربين والمحتكرين
ويلفت الدكتور حميد عنبوري المتخصص في الفقه الإسلامي الانتباه لخطر آخر يصاحب انتشار الفتن والأمراض والأوبئة، وهو ظاهرة الاحتكار والمضاربة السلع ورفع أسعارها، إذ يستغل البعض الخوف من نفاد السلع بسبب تقلص حركة البضائع والنقل في العالم، ويعمد إلى التسوق بما يفوق حاجته لشهر أو شهرين، فتنتشر الظاهرة، فتفتح أعين المضاربين والمحتكرين، فيستغلون الفرصة للزيادة في الأسعار، ويساهمون من حيث لا يدرون في نشر الفتنة والهلع في المجتمع، فينتج عنه اضطراب حركة التزود، ونفاد بعض المنتوجات، فيرى الدكتور صالح النشاط أن من واجب العلماء أن يحذر من هذه المعاملات المحرمة، ويبين موقف الشرع منها، وتحريمه المغلظ لها، وآثارها الخطيرة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ويرى الدكتور أحمد كافي أن واجب العلماء أن يقوموا بدورهم في تهدئة الأوضاع ونشر الطمأنينة والسكينة، ونصح السلطات بضرورة تحمل مسؤولياتها في التعامل بصرامة شديدة مع كل من سولت له نفسه استغلال هذه الظروف الصعبة، للتلاعب بهدوء الناس وسكينتهم سواء عبر نشر الأخبار الزائفة أو المضاربة في السلع ورفع أثمانها، وكل ما يتعلق بالإضرار بأنفس الناس وأعراضهم وجيوبهم.
العلماء يوفرون الجاهزية المجتمعية للاستجابة لقرارات القيادة الصحية
ويرى الدكتور صالح النشاط أن مساهمة الدين في مواجهة الوباء الصحي الذي يهدد الصحة العمومية، لا يتوقف على هذه التوجيهات، بل يمتد للوساطة بين القيادة الصحية والمجتمع، وذلك بأن يكون العلماء في طليعة من يقنعون المجتمع بضرورة الاستجابة الفورية لتوجيهات القيادة الصحية والانضباط لها مهما كلف الثمن، ومواجهة خطاب التشكيك الذي يحاول البحث في الدوافع السياسية وراء المرض، ويضعف بذلك جاهزية المجتمع للاستجابة لقرارات القيادة الصحية. فالعالم، حسب الشيخ حماد القباج لا يهمه من أين جاء الفيروس، وهل هو طبيعي أم هو من فعل حرب بيولوجية وراءها البشر أو أيادٍ بشرية أو سياسات دول بعينها؟ وإنما عينه على سلامة الناس الصحية، وواجبه يتحدد في توعية الناس بما يجب عليهم القيام به لمواجهة الخطر.
يرى الدكتور صالح النشاط أن دور العلماء أن يكونوا دائما في موقع تحسس المسؤولية، وأنه إذا اقتضت مبادئ الصحة والسلامة العامة منع الأنشطة العلمية والمنتديات الثقافية، بل وحتى منع إقامة صلاة الجمعة بصفة مؤقتة ريثما يتم تجاوز حالة الخطر، فإن واجبهم أن يكونوا في مقدمة من يقنع الشعب بذلك، لأن مقاصد الشرع الكلية تقوم على رفع الضرر وإزالته.
المصدر: نشره موقع عربي 21 في قسم أفكار