4 أفكار لأرسطو يحكم بها العالم من قبره حتى الآن

أرسطو (384- ق. م) فيلسوف يوناني قديم، يعد من أهم الفلاسفة اليونانيين القدماء، حتى إنهم لقبوه بـ«المعلم الأول» و«معلم البشرية» لشدة تأثيره، وقد كان المعلم الخاص بالإسكندر الأكبر شخصيًّا (356- 323 ق. م)، وما زالت أفكاره التي عبَّر عنها منذ ما يقارب 2500 سنة، حية وتنظم مناحي رئيسة في حياتنا العامة، فما هذه الأفكار؟ وما صداها المعاصر؟ هذا ما سنعرفه خلال تقريرنا التالي.

وحين نتعامل مع سير حياة القدماء بشكل عام، علينا إبقاء الفكرة التالية في أذهاننا، وهي كون معظم سيرهم لم تصلنا بشكل تفصيلي وموثق، بل في الغالب لا نتمكن من تكوين صورة عنهم إلا من خلال ما يتفق عليه المؤرخون من بضع نقاط بارزة في حياتهم الشخصية والعامة، والتي لا يمكن إنكارها.

سيرة الفتى المولع بالتعلُّم
في المنطقة المقدونية الواقعة شمال شرق اليونان في مدينة ستاجيرا، نشأ فتى تبدو عليه ملامح الذكاء، أرسله والده الذي كان يشتغل بالطب إلى أثينا في سن السابعة عشرة تقريبًا للدراسة في أكاديمية أفلاطون، وكان للتعليم في ذلك الوقت أهمية بالغة لدى الأسر المقتدرة ماديًّا بسبب ما يمنحه من مكانة اجتماعية بارزة في المجتمع اليوناني القديم، وقد ظل أرسطو مرتبطًا بالأكاديمية منذ وصوله إلى أثينا وحتى وفاة أفلاطون عام 347 ق. م، وبعد وفاة أستاذه غادر إلى أسوس، في آسيا الصغرى، على الساحل الشمالي الغربي لتركيا الحالية.

في أسوس واصل الشاب أرسطو النشاط الفلسفي الذي بدأه في الأكاديمية، لمدة سنتين، وبموازاة ذلك بدأ في توسيع أبحاثه في علم الأحياء البحرية، ثم انتقل بعدها إلى جزيرة ليسبوس الساحلية المجاورة لها بعد وفاة مضيفه حاكم أسوس، هيرمياس، وهو صديق وزميل سابق لأرسطو.

في ليسبوس واصل أرسطو أبحاثه لمدة عامين إضافيين، إذ عمل جنبًا إلى جنب مع ثيوفراستوس، الذي عرفه أرسطو في أكاديمية أفلاطون ونشأت بينهما صداقة، فضلًا عن تتلمذه على يد أرسطو لاحقًا، وقد تزوج أرسطو من فتاة تدعى «بيثياس»، وهي ابنة أخت صديقه وحاكم أسوس هيرمياس، وأنجب منها ابنة أسماها «بيثياس» تيمنًا بأمها التى توفيت بعد ذلك، ليتزوج من امرأة تدعى «هيربليس» أنجبت له أبناءً عدة من بينهم «نيقوماخوس» الذي أسماه على اسم والده، ويفترض أنَّ كتابه «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس»، قد سُمِّي بهذا الاسم لأنه أهداه إلى ابنه.

في عام 343، وبناءً على طلب فيليب الثاني، ملك مقدونيا، غادر أرسطو إلى العاصمة المقدونية «بيلا»، من أجل تعليم ابن الملك البالغ من العمر 13 عامًا، الذي أصبح فيما بعد الإسكندر الأكبر، وعلى الرغم من كثرة تكهنات المؤرخين حول تأثير أرسطو في الإسكندر الأكبر، فإننا لا نعرف سوى القليل عن تلك المرحلة، لكن المؤكد أن الإسكندر كان تلميذًا لأرسطو، وبشكل عام يرجح أغلب المؤرخين أن فترة التعليم تلك قد استمرت ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام في الفترة التي كان فيها الأمير الصغير في عمر الثالثة عشرة وحتى الخامسة عشرة، وهي السن التي كان الإسكندر يعمل فيها نائبًا عسكريًّا لوالده.

ومثلما تمرد أرسطو على أفكار أفلاطون، تمرد الإسكندر على أفكار أرسطو فيما يخص رفضه لغزو البلاد الأجنبية؛ بسبب اعتقاده بأن تلك الشعوب أدنى مكانة من الشعب اليوناني ولا يجب الاختلاط بهم أو إهدار الوقت والموارد على غزوهم، إلا أن تلميذه بدا غير مهتم بتلك النظرية وواصل فتوحاته شرقًا، منطلقًا من بلاد اليونان حتى وصل إلى الهند مرورًا بمصر وبلاد فارس.

1- فكرة «مدرسة الثانوية العامة» والمكتبة
على غرار أستاذه أفلاطون، أنشأ أرسطو مدرسته الخاصة عام 335 ق. م في منطقة تمارين عامة مخصصة للإله اليوناني أبولو ليكيوس بأثينا، سميت بمدرسة ليسيوم. وأُطلق على المنتسبين إلى مدرسته «المشائين»؛ نظرًا إلى أن أرسطو كان يعطي دروسه أثناء المشي بين أروقة مدرج الألعاب الرياضية بأثينا، حتى لقبه تلامذته بـ«المشاء». فما الذي يفرق مدرسة أرسطو عن أكاديمية أفلاطون؟

يتلخص الاختلاف بين المدرستين في أن مدرسة أرسطو المشائية كانت أول مدرسة عامة في العالم القديم تقبل كل التلاميذ؛ وذلك على عكس مدرسة أفلاطون الذي نبذ الشعراء من مدينته الفاضلة، وعلق لافتة على باب مدرسته تقول بعدم دخول كل من لا يعرف علم الهندسة، كما أوضح فى كتابه «الجمهورية»، أما مدرسة أرسطو فتقبلهم سواء كانوا عارفين بالهندسة أم لا، فكل من كانت له رغبة في التفلسف والتعلم من المعلم، كان يمكنه ببساطة أن ينضم للمشائين.

أجرى أعضاء مدرسة «ليسيوم» أبحاثًا في مجموعة واسعة من الموضوعات، مثل: علم النبات، والأحياء، والمنطق، والموسيقى، والرياضيات، والفلك، والطب، وعلم الكونيات، والفيزياء، وتاريخ الفلسفة والميتافيزيقا، وعلم النفس والأخلاق، واللاهوت، والبلاغة، والتاريخ السياسي والحكومة، والنظرية السياسية، والأدب، والفنون.

وجمعت تلك المدرسة الكثير من المخطوطات التي غطت هذه الجوانب المعرفية المتنوعة، ومن ثم، وفقًا لبعض المصادر القديمة، فقد كونوا أول مكتبة كبيرة في العصور القديمة، قبل إنشاء مكتبة الإسكندرية على يد البطالمة بوقت كبير، وقد أشار المؤرخ اليوناني سترابو إلى كون أرسطو أول من كون مكتبة، أو أول من عرف عنه تكوين مكتبة في العالم القديم.

ولفظ «ليسيوم» اليونانى، هو اللفظ ذاته في اللغات الحديثة للدلالة على كلمة «مدرسة ثانوية» مثلما في الإنجليزية، فحسب قاموس «ميريام ويبستر» تدل الكلمة على المدرسة الثانوية، وفي اللغة الفرنسية أيضًا تدل كلمة «ليسيه» على مدرسة ثانوية نظامية توفر محاضرات علنية، تمامًا كما كان يفعل أرسطو.

ومن ثم فمن «ليسيوم» أرسطو خرجت فكرة المدرسة الثانوية الحالية التي تؤسس الطالب للمرحلة الجامعية عبر تعليمه مبادئ العلوم التجريبية والإنسانية المختلفة، قبل التخصص الجامعي بعد ذلك، وهو النظام المعتمد في شتى دول العالم بغض النظر عن اختلاف عدد السنوات التي يقضيها الطالب في تلك المرحلة من دولة إلى أخرى.

2- «النظام الدستوري» براءة اختراع لأرسطو
اعتمادنا على فكرة القانون حاكمًا وضمانًا للحقوق والواجبات، تعود إلى 2500 عام، وإلى أرسطو تحديدًا، فبعد أن قضى أرسطو نحو 20 عاما تلميذًا فى أكاديمية الصفوة، أكاديمية أفلاطون، وأسماه أستاذه بـ«العقل» لشدة ذكائه ونبوغه، عارض أرسطو الفكرة الرئيسة في فلسفة أفلاطون وهي حكم الفلاسفة أو ما كان يسميها أفلاطون بـ«طبقة الحكام».

وقد قسم أفلاطون المجتمع الفاضل إلى ثلاث طبقات محددة أعلاها طبقة الحكام، وأرادها أن تكون حكرًا على الفلاسفة، وطرح ضمن تعريفه لمهام طبقة الحكام/ الفلاسفة، أن المرجعية الوحيدة في الحكم تكون وفقًا لعقل الحاكم الفيلسوف، إلا أن أرسطو – العملي بطبعه- رفض تلك السيادة المطلقة لحكم الفلاسفة، وشكك في مدى فاعلية التقسيم الطبقي الأفلاطوني.

رأى أرسطو أن الدول تختلف بعضها عن بعض من ناحية الهيئة التى يُعهد إليها بإدارة دفة الحكم، فقد تكون فردًا أو مجموعة من الأفراد، لكن هناك عاملًا مشتركًا في نظم الحكم جميعًا هو أن يكون القانون عماد الحكم ودعامة النظام، ولا يسمح بوجود إرادة في الدولة تسمو على سلطة القانون، وبالنسبة إليه يعد القانون لا غنى عنه للمجتمع السياسي.

وانطلاقًا من هذه الانتقادات لأفكار أفلاطون حول شكل الدولة وطريقة حكمها، خرج أرسطو بما يسمى نظام الـ«بوليتيا»، وهو ما نعرفه اليوم بالحكومة الدستورية، الذي يشترط فيه أن يكون محكومًا بالقانون الدستوري أولًا، وتكون القيادة فيه لمواطن من مواطني الطبقة الوسطى ثانيًا، فحسبما رأى أرسطو، فإن أفراد الطبقة الوسطى هم الأفضل في الحكم لأنهم ليسوا أثرياء، فيحرصوا على الثروة قبل كل شيء، كما أنهم ليسوا فقراء فيكونوا طامعين في ثروات غيرهم، وهو أمر يمكن ملاحظته في معظم الأنظمة السياسية في العالم؛ إذ تكون السيادة فيها للدستور والقانون أولًا.

وحتى فكرة شروط الترشح لأي انتخابات معاصرة في أي دولة من دول العالم قد وضع أسسها أرسطو، الذي اشترط فيمن يترشح أربعة شروط:

أولًا أن يكون من الذكور الكبار في السن، وثانيًا أن يكون من أبوين وطنيين (ليس أجنبيًّا)، وثالثًا أن يكون حرًّا وليس عبدًا، ورابعًا وأخيرًا أن يتفرغ بشكل تام وكامل لأعمال الشئون السياسية ولا يشتغل بأية أعمال أخرى، وهي شروط تبدو معاصرة وقريبة لنا بشكل كبير، رغم أنها تخاطبنا من وراء 2500 سنة.

3- تنظير مبكر للرأسمالية
في سياق تفنيد آراء أستاذه أفلاطون، سعى أرسطو لتقديم حل لمشكلة طرحها التقسيم الأفلاطوني للمجتمع، وهي «إلغاء الملكية الفردية» وجعل كل الممتلكات ملكًا شائعًا بين الجميع، فيما عدا طبقة الحكام.

أقر أرسطو بأهمية الملكية الخاصة للمواطنين وقال إن العلاج ليس هو المساواة في الملكية، ولكن بالارتقاء الخلقي للأفراد، وهو ما أسماه التوزيع العادل للملكية وليس المتساوي، واقترح آلية الانتفاع بين الأفراد، تمامًا كما نستطيع جميعًا طلب سيارة الأجرة التي هي في الواقع ملك لشخص آخر، لكننا نتنفع بها مع احتفاظه بملكيتها الخاصة، وكلها أفكار منشورة عبر كتابه «السياسة» الذي قدم ترجمته العربية الأولى أحمد لطفي السيد.

قد تبدو الأفكار السابقة بديهية أو معتادة بالنسبة لنا الآن، لكنها بكل تأكيد لم تكن كذلك منذ 25 قرنًا من الزمان، خاصة وأنها لم تكن فقط تفنيدًا لآراء أعظم فلاسفة عصره، أفلاطون، إنما حملت إضافات كثيرة قام بها أرسطو وحلولًا قدمها لمشكلات ما زالت تؤرق الفكر الإنساني، والآن لنذهب نحو الجانب الآخر من أرسطو.

4- أرسطو.. «تأسيس الذكورية»
يعد كل فيلسوف مرآة لعصره وصورة لطبيعة الفكر في الفترة التي عاش فيها، ولم يكن أرسطو استثناءً من ذلك؛ إذ إنه ضمن التفنيدات التي قدمها حول آراء أفلاطون، اعترض على مساواة أفلاطون بين الرجل والمرأة في كافة الأعمال، ونادى أرسطو بقوامة الرجال على النساء، فجعل للرجل السلطة الكلية، وقال بأن على المرأة طاعته باعتبار أن الرجل له القوامة طبقًا لحقه داخل العائلة.

ولم يترك للمرأة إلا ما يلائم جنسها، من وجهة نظره، من الأعمال، وقد فسر أرسطو موقفه هذا بالتفاوت بين الرجل والمرأة طبيعيًّا؛ إذ قال بأن بعض الكائنات مخصصة للطاعة منذ الولادة والأخرى مخصصة للقيادة، كما هو الحال في الإنسان نفسه؛ إذ نرى النفس تأمر والبدن يطيع، فالنفس تتسلط على البدن مثل سيد على عبده، والعقل يسيطر على الغرائز كالحاكم على شعبه.

قد لا تكون هذه الأفكار فيما يخص المرأة جديدة كليًّا على المجتمع اليوناني آنذاك، لكن قول أرسطو بها أكسبها قوة معنوية مع وجاهة عقلية جعلت منها الأفكار السائدة في العصور الوسطى، التي اعتمدت في فلسفتها على الرجل بشكل كبير، وما تلاها وحتى مطلع العصور الحديثة، واستمرت حاضرة بقوة في الأوساط الغربية طالما كان تأثير أرسطو حاضرًا.

كيف أصبحت أفكار أرسطو مؤثرة بهذا الشكل؟
يطلق الباحثون على فلسفة العصور الوسطى «العصر الذهبي لأرسطو»؛ إذ كانت الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى تعد إعادة إنتاج لأفكار أرسطو بشكل أو بآخر، وخلال ما عُرف بحركة الترجمة عن العربية التي شهدتها أوروبا لنقل علوم اليونان عنهم، تسربت أفكار أرسطو إلى أوروبا العصور الوسطى وسرعان ما اجتذبت مؤيدين ومناوئين على حد سواء.

حتى جاء أحد الفلاسفة المسيحيين الكبار، وهو توما الإكويني، وقام بالتوفيق بين الفلسفة والمنطق الأرسطي من جهة، والمسيحية من جهة أخرى، لتصبح فلسفة أرسطو وأفكاره بعد ذلك هي الحاكم غير المرئي لفترة 200 سنة بدءًا من القرن الخامس عشر وحتى بداية السابع عشر الميلادي، إذ بدأت أوروبا وقادة الفكر فيها في الخروج من عباءة أرسطو وتكوين رؤاهم الخاصة عن العالم.

كاره للمرأة ومؤيد للعبودية.. وجه أفلاطون الذي ربما لا تعرفه

لكن بعض المعالم الفكرية الأرسطية ظلت باقية، منها فيما تقدم، التعليم النظامي الثانوي، ومبدأ سيادة القانون، وكذلك الملكية الخاصة والانتفاع، وأخيرًا بقايا «النظرة الذكورية»؛ إذ يبدو وبعد كل شيء أن الأوروبيين رغم محاولاتهم التخلص التام من أرسطو، لم يستطيعوا سوى التأثر بهذه الأفكار وتطبيقها.

بعد 2500 سنة، ما زلنا مدينين بالكثير من النظم والقواعد التي تنظم حياتنا اليومية بشكل محدد ودقيق، وما زال البعض يرى في بعض أفكاره الأخرى ترسيخًا للظلم، ولكن يرد البعض بأنه تخيل لو أن العالم كان بلا مدارس ثانوية، أو حتى الأسوأ، لو أننا نحيا في مجتمع لا تحكمه قوانين أو لوائح من أي نوع، أي شكل كانت ستغدو عليه حياتنا إذاً؟

ومع ذالك تبقى الحقيقة المطلقة أن أحكام الإسلام والنظم التي أتى بها لبناء الأسر والمجتمعات من أجل الإستقرار والسلام الدئم.. لا بديل عنها. كما أن الأخذ بالقوانين الوضعية التي لا تتعارض مع توجهات الإسلام، و تدعم غاية التوحيد والسلم الإحتماعي  والغاية العلمية.. يعتبر أمرا مطلوبا، وعلينا أن نتخيل لو لم تكن هناك قوانين للسياقة مثلا، كيف ستكون المجتمعات؟

▪︎المصدر : ساسة بوست    |     تصفح >>> www.hamsnews.com

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

مقالات ذات صلة

علق على هذه المادة

التعليقات تعبر عن رأي صاحبها فقط ... كما يرجى الالتزام بالأداب العامة

4 + 2 =