أحمد أبو رتيمة
ثمة ميل قديم يرجع إلى نشأة الإنسان منذ فجر التاريخ بتفسير الكوارث الطبيعية أنها غضب من الله أو من “الآلهة” حسب زعمهم، وهذا الميل يرجع إلى الحاجة الإنسانية الفطرية إلى الارتباط بقوة وراء الطبيعة تهيمن على مجريات الأحداث وتتجاوز قدرتها القدرات البشرية المحدودة، وتملك ميزاناً أخلاقياً لحساب الناس على أفعالهم. وبدافع هذه الحاجة الفطرية اختلط العلم بالظن والحقيقة بالوهم، فهناك من قاده إيمانه بعالم الغيب إلى التقوى والاستقامة، بينما أكثر الأمم استعملت هذا المعنى بطريقة أهوائية لتنسب لنفسها ميزةً ليست لغيرها من أمم الأرض، فهي تريد للإله أن يتبع هواها: “نحن أبناء الله وأحباؤه”. وتنتفخ نفس الإنسان من الغرور حتى يظن أنه محور الكون وأن قوى الطبيعة تتبع هواه من دون الناس، فكل ما أصاب غيره من كوارث فهو تجل للعدالة الإلهية بالانتقام من الكفار والأشرار، فإن أصابته ذات الكوارث نسي ما كان يدعو من قبل وعدها مجرد تقلبات طبيعية لظروف الدهر: “قد مس آباءنا الضراء والسراء”.
في رد فعل معاكس لهذا الغلو الديني جاء الغلو المادي الذي أنكر أي بعد غيبي لهذه الحياة، وأعلن موت الإله، وأن كل ما يواجه الإنسان هي ظواهر طبيعية يمكن هزيمتها بالأسباب الطبيعية، وأنه لا قيمة لأي تفسير أخلاقي في تناول ظواهر الطبيعة، وإن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثمة جملة من المفاهيم الدينية مثل أن الله هو خالق كل شيء ومدبر كل شيء، وأن ما يصيب الإنسان فهو من كسب يده: “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”، وأن الإيمان والصلاح يقود إلى الخير والبركة في هذه الحياة: “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون”، “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ولكن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”. كما يقص القرآن قصص أقوام كذبوا وظلموا فعاقبهم الله بالطوفان والصيحة والخسف والجراد والقمل.
في قصص الأنبياء كان هناك تدخل إلهي مباشر في الحياة البشرية، وهذا التدخل يتناسب مع ضعف سلطة الإنسان على الطبيعة في تلك الفترات التاريخية، فالإنسان كان يقف حائراً أمام الأعاصير والبراكين والميكروبات لا يستطيع ردها ولا يملك عنها تحويلاً. كانت تلك الكوارث تحصد الملايين أحياناً دون أن يملك الإنسان خياراً سوى التضرع إلى الله وانتظار انفراج هذه الكربة مستسلماً عاجزاً، فكانت طريقة عمل الله تعالى في تلك الأزمنة متناسبةً مع الحالة السائدة، وهذا يظهر في جانبين: جانب المعجزات التي تخرق مألوفات الطبيعة لإقناع الأقوام بصدق رسالات الأنبياء، أيضاً جانب العقوبات التي تنصر الأنبياء في مواجهة تكذيب الأقوام وعنادها بتدخل إلهي مباشر خارق لمألوفات الطبيعة.
لكن هذه المعجزات كانت تتعلق بأدوات التأييد والتعزيز للإيمان ولا تتعلق بجوهر حقيقته، إذ إن برهان الإيمان موضوعي وحقيقته الجوهرية تسري في كل زمان وكل مكان وعلى كل أمة.
في العصر الحديث ازداد الإنسان علماً فتوسعت مساحة المعلوم وضاقت مساحة الأساطير، ووضع الإنسان يده على كثير من أسرار الكون فتحرر من عبودية الجهل والخوف لظواهر الطبيعة، “وظن أهلها أنهم قادرون عليها”، وتمكن من تسخير كثير مما في السموات والأرض له بفضل اكتشاف القوانين. هذا التقدم العلمي أغرى الإنسان بالإعلان أن الحاجة إلى الدين انتهت، وأن هذه الحاجة كانت تنتمي إلى أزمنة تاريخية سابقة، وأن ما لا يجيب عنه العلم اليوم فسيجيب عنه المزيد من العلم غداً.
“ما لا يجيب عنه العلم سيجيب عنه المزيد من العلم”، هي عبارة صحيحة وخالية من العلة، العلة هي في خلق التعارض بين الدين والعلم، والله تعالى حين يخبرنا في القرآن الكريم عن عمله في تدبير شؤون الخلق، فهو لا يقصر تدخله بطريقة خوارق العادة، بل إن القوانين ذاتها هي تجليات لعمل الله تعالى.
مثلاً، فإن كلمة “آية” تشير أحياناً إلى معجزة مثل تكلم عيسى في المهد أو إغراق فرعون في اليم، لكن كلمة “آية” تشير في مئات المواضع في القرآن الكريم إلى الظواهر الطبيعية التي نراها حولنا كل يوم: “ومن آياته منامكم في الليل والنهار وابتغاؤكم من فضله”، “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً”، “ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات”، “ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته”. إن أكثر الأمور إلفاً لنا مثل قانون الطفو والنوم وضياء النهار وهبوب الرياح والتزاوج بين البشر وتعدد اللغات وتكون الجنين، هي آيات يتجلى فيها عمل الله تعالى، فالله لا يتواصل مع عباده بالمعجزات فقط، بل إن التواصل بالمعجزات هو استثناء نادر جداً، إنما يتواصل معهم بواسطة القوانين التي يعيشونها كل يوم حتى يدفع شدة إلف هذه الظواهر وتكرار حدوثها أكثر الناس إلى الغفلة عن المعنى الروحي الذي تتبطنه، لأن شدة القرب حجاب: “طال عليهم الأمد فقست قلوبهم”.
إن القرآن أيضاً حين يتحدث عن العذاب الإلهي في الدنيا فهو لا يقصره على الصورة التاريخية التي تحتل المخيلة التدينية العامة مثل الخسف والصيحة والطوفان، بل إن من تجليات العذاب الإلهي أفعال البشر من حروب واقتتال: “قُلْ هُوَ الْقَادِرُ على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ”.
إن تذييل هذه الآية بلفت النظر إلى تصريف الآيات والدعوة إلى التفقه تأكيد على حضور الفعل الإلهي في الأفعال البشرية المعتادة، فليس ثمة تناقض بين تفسير الظواهر الاجتماعية بأسبابها المادية وبين نسبة ذلك إلى الله كونه خالق هذه القوانين ومدبر كل شيء، وفي ذات المعنى يقول القرآن: “قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم”، فالفعل الإلهي باق في كل زمان لكن تجلياته متعددة وإن من تمام تكريم الإنسان أن تزيد سلطته على الطبيعة، فيبادر بذاته بالفعل ويملك القدرة على تغيير التاريخ. لكن هذا لا يعني “موت الإله” وفق النظرة المادية المتطرفة، بل يعني أن الإله يعمل على هذه الأرض من خلال هداية الإنسان الذي نفخ فيه من روحه، إلى سننه.
في سورة محمد إشارة صريحة: “ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض”. إن الأمر يشبه أن يدرب الأب طفله على الاعتماد على نفسه، فإذا نضج الولد تركه الأب ليفعل بنفسه ويتحمل نتيجة فعله، ولله المثل الأعلى، لكن هذا المثل لتقريب المعنى، حين كان الإنسان في أزمنة الأنبياء السابقين مقهوراً من قوى الطبيعة كانت هناك حاجة في بعض الأحيان لتدخل إلهي مباشر عن طريق المعجزة، لكن حين نضج الوعي الإنساني أظهر الله آية التدافع بين الأمم ليأخذ الناس زمام صناعة التاريخ بأنفسهم، فيقهر الظالمون بنمو قوىً جديدة من بين المظلومين تأخذ بأسباب القوة والتمكين فتكون قدراً على الظالمين.
في ضوء هذه الرؤية: هل يمكن اعتبار كورونا عقاباً من الله؟
إن كل ما يحدث على هذه الأرض هو لحكمة ظاهرة أو باطنة، ولو قال أحدهم: “إن هذه الفيروسات الهشة تحطم غرور الإنسان وتظهر ضعفه ووهم شعوره بالقوة” فهل نعد هذه المقولة ماديةً أم دينيةً؟
هي مقولة مادية بالنظر إلى التسلسل المنطقي بين أجزائها، وهي في جوهرها مقولة دينية، إذ إن الله لا يتكلم مع البشر جهراً، والسنن الطبيعية هي كلمات الله التي لا تنفد. والمعنى الذي تتضمنه الفيروسات هو أن الإنسان مهما بلغت قوته فإن الضعف يحاصره من بين يديه ومن خلفه، وإذا علم الإنسان ضعفه كان أجدى به أن يخشع ويتواضع ولا يتكبر إلا أن يقسو قلبه فلا ينتفع بالآيات.
إن شرط الانتفاع بالآيات هو الإيمان، ومن لم يؤمن فلن تغني عنه كل الآيات والنذر، وتوصل البشر لمصل مضاد لهذا الفيروس لن يلغي الإشارة الإلهية المتضمنة فيه، وآيات الله لا تنفد، ففي كل يوم وفي كل زاوية من هذا الكون ثمة إشارات ودلالات لقوم يتفكرون.
إن التنبه إلى البعد الروحي في الحوادث يهذب نفس الإنسان ويجعله أكثر إنصاتاً لموازين العدل التي بني عليها هذا الكون، دون أن يعطل ذلك تفاعله الفكري مع الحياة، لكن الخطر يتمثل في استغلال هذه المفاهيم بطريقة انتقائية أهوائية، ولتجنب هذا الاستغلال فإن قيمة الفهم الروحي ليس في كونه مادةً للجدل الفكري أو الشعور بالأفضلية القومية على الأمم الأخرى، بل قيمته هو ما يبنى عليه من تهذيب النفس ورفع مستوى الرقابة الأخلاقية وعدم تكبر الإنسان على الخالق مهما زاد علمه وعظم سلطانه.
المصدر: نشر في موقع عربي 21 في قسم قضايا وآراء