الثابت والمتغير في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

Ξ بقلم محسن محمد صالح

السياسة الأمريكية ليست “قدراً مفروضاً”، بل تدخل في سنن “التدافع” و”التداول”. والأمة وشعوبها حين تحسم أمرها، وتُصِرّ على تحقيق استقلالها، ستكون قادرة على فرض إرادتها، والسير في دروب نهضتها، سواء أحبت أمريكا أم كرهت.
إذا ما تجاوزنا القراءات العامة للسياسة الخارجية الأمريكية التي تركز على المصالح العليا ومتطلبات الأمن القومي، وهي تكاد تكون ثابتاً في السياسات الخارجية لمعظم دول العالم، وذهبنا إلى مزيد من التحديد والتعمق في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط (مع تحفُّظنا على مصطلح “الشرق الأوسط” الذي نتعامل معه هنا لضرورات إيصال الفكرة)، فإنّ خمس نقاط تُعَدُّ ثوابت في هذه السياسة، خصوصاً في الخمسين سنة الماضية، وبغضّ النظر عن خلفيات الرئيس والحكومة التي تقبع في البيت الأبيض، جمهورية كانت أم ديموقراطية:

النقطة الأولى هي أن الكيان الصهيوني “إسرائيل” هو حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة، وأن الحفاظ على أمنه وتفوُّقه العسكري كقوة إقليمية كبرى هو جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية.

ومن الواضح أن أي سياسات أخرى يجب أن تتوافق مع هذا الأساس، باعتباره معياراً حاكماً لغيره. وينبني على ذلك توفير الدعم العسكري والمالي، وتوفير الغطاء لاحتلال الضفة الغربية والجولان وبرامج التهويد فيهما بما في ذلك القدس، وللحصار على قطاع غزة، بالإضافة إلى قطع الطريق على أي إجراءات دولية يمكن أن تُتّخذ ضدّ الكيان الصهيوني، وفرضه كدولة “فوق القانون”، ومنع اتخاذ أي قرارات ملزمة بحق الكيان في مجلس الأمن.

ولا يعني ذلك أن بين الطرفين تطابقاً كاملاً، ولا أن السياسة الأمريكية خاضعة دائماً للرغبات الإسرائيلية، غير أن الإدارات الأمريكية المختلفة تجتهد أحياناً في التعامل مع “الابن المدلل” بما يخالف بعض رغباته، خصوصاً عندما يتعارض ذلك مع المصالح الأمريكية العليا أو في طريقة خدمة المصالح الإسرائيلية واستقرارها في المنطقة بما يخالف اجتهاد الحزب أو التحالف الحاكم في الكيان.

النقطة الثانية هي الاستفراد بالهيمنة على المنطقة باعتبارها منطقة نفوذ أمريكي، في إطار الصراع على النفوذ العالمي مع القوى الكبرى الأخرى. غير أن هذه السياسة لم تَخلُ من التحديات، إذ تَمكَّن الروس من اختراق هذا النفوذ في بعض الفترات الزمنية في بلدان مثل سوريا والعراق وجنوبي اليمن وليبيا… كما نجحت دول في الخروج من دائرة النفوذ الأمريكي مثل إيران. وعلى الرغم من عضوية تركيا في حلف الناتو وتبنّيها اقتصاد السوق، فإنها تبنّت سياسة مستقلة، نجحت خصوصاً في العقدين الماضيين، في تحجيم أدوات التأثير الأمريكي والغربي، بعد نجاحها في تطوير إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية وعلاقاتها الدولية، وفي البروز كلاعب إقليمي رئيسي يحافظ على مصالحه ويرعى حلفاءه.

كما تجدر الإشارة إلى أن الأمريكان في العقد الأخير أخذوا يعطون أولوية أكبر لمواجهة الصعود الصيني، وللتنافس عبر المحيط الهادئ. وربما أضعف ذلك بشكل محدود درجة التركيز الأمريكي على الشرق الأوسط، غير أنه لم يؤثر في جوهر السياسة نفسها.

النقطة الثالثة مرتبطة بالهيمنة على مناطق النفط، خصوصاً نفط الخليج، لتأمين احتياجات الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين واليابانيين وغيرهم من النفط بأسعار “معقولة”، واستخدام هذه الهيمنة أداةَ ضغط على القوى المنافسة والمناكفة في السياسة الدولية. وعلى الرغم من أن احتياجات أمريكا من النفط قد انخفضت في السنوات القليلة الماضية، فإن جوهر هذه السياسة الأمريكية ما زال ثابتاً.

النقطة الرابعة هي الهيمنة على خطوط الملاحة والتجارة الدولية في المنطقة، وضمان انسيابها بما يخدم مصالح أمريكا ومصالح حلفائها، ومنع تعطيلها من أي قوى إقليمية أو دولية. وهذا ينطبق على تأمين انسياب التجارة والملاحة عبر مضيق هرمز ومضيق باب المندب وقناة السويس.

أما النقطة الخامسة فتركز على توفير الدعم والحماية والغطاء السياسي الدولي للنظم الموالية للولايات المتحدة، والسعي لتطويع أو إعادة تشكيل النظم السياسية الخارجة عن “بيت الطاعة” لإدخالها في “الحظيرة” الأمريكية.

أما في ما يتعلق بالمتغير في السياسة الأمريكية، فيرتبط بالسياسات والإجراءات والأدوات التي تستخدمها في رعاية مصالحها وإنفاذ ثوابت سياساتها. وهنا تتدخل مجموعة من العوامل مرتبطة بالخلفيات والميول السياسية والدينية والثقافية للرئيس الأمريكي وفريقه الحاكم، والظروف الاقتصادية الأمريكية والعالمية، ودرجة الشعور بالمخاطر الخارجية، والتعامل مع التنافس الدولي والقوى الكبرى وسلوكها السياسي والعسكري والاقتصادي الذي قد يمسّ المصالح الأمريكية أو يزاحمها في دوائر نفوذها.

ولا يتسع المجال هنا للتحدث حول النظريات التي حاولت تفسير السياسة الخارجية الأمريكية، ولا للتحدث عن الاتجاهات التي حكمت هذه السياسة، غير أننا نشير هنا من باب التبسيط والاختصار إلى اتجاهين رئيسيين، أولهما اتجاه محافظ يعطي قيمة أكبر للقوة الاستراتيجية الأمريكية العسكرية والسياسية والاقتصادية، ويعطي اعتباراً أكبر لمنظور القوة، وينظر نظرة مُستعلية من خلال ما يسمّيه “العالم الحر” وتراثه وقيمه الدينية والثقافية.

ويَدخل في هذا التصنيف ممثلو القوى اليمينية والعنصرية والقوى الدينية، والمَحضِن الطبيعي المعتاد يجدونه في الحزب الجمهوري. وهذا الاتجاه عندما يسيطر على البيت الأبيض يسير بوتيرة عالية ومكشوفة في دعم الكيان الصهيوني، ويستعجل في استخدام وسائل الضغط والعقوبات الاقتصادية، ويتوسع في دعم الديكتاتوريات وتوفير الغطاء لها، ويتجاهل قمع المعارضة وتزوير الانتخابات، كما قد يلجأ إلى التدخل العسكري غير آبه بالقوانين والشرعية الدولية وغيرها.

وهذا الاتجاه ينطبق على حكومات ريغان وبوش الأب وبوش الابن وترمب، وظهرت سياساته بوضوح في حرب الخليج الأولى1991، وفي الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، وفي سلوك ترمب ومحاولته فرض “صفقة القرن”، وطريقة تعامله مع حكام الخليج وباقي الدول العربية.

أما الاتجاه المقابل فيميل أكثر إلى تحقيق المصالح الأمريكية وبالوسائل “الناعمة” ويحاول استخدام وسائل تأثير غير مباشرة وغير فجَّة، كما يحاول استخدام الذرائع والأدوات المرتبطة بقيم “الحرية” أكثر من تلك المرتبطة بقيم “القوة”، وإن كان لا يتردد في استخدام القوة عندما يجد ذلك ضرورياً. والمَحضِن المعتاد لهذا الاتجاه يتركز في الحزب الديمقراطي.

وهذا الاتجاه يُظهِر تفهُّماً أكبر للاختلافات العرقية والدينية وللخصوصيات الثقافية والحضارية لشعوب العالم، ويتحدث كثيراً عن التنمية وحقوق الإنسان (ضمن المنظور الأمريكي للهيمنة)، ويستخدم المعونات المالية للأغراض السياسية، كما يلجأ إلى استخدام “الشرعية” الدولية ومنصات الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمعاقبة الدول المخالفة، قبل اللجوء إلى الوسائل “الخشنة” الأخرى. ويحاول هذا الخط تخفيض النفقات العسكرية في الخارج، واستنفاد الوسائل المتاحة قبل أي تدخل عسكري. ويسعى لبناء تحالفات وعلاقات دولية وإيجاد تفاهمات مع القوى الدولية في إدارة المصالح المشتركة ونقاط التوتر، بما يحافظ على التفوق الأمريكي، ولكن دون أن تشعر القوى المنافسة أو الصاعدة بالخطر، ودون أن تخسر أمريكا أصدقاءها وحلفاءها.

وهذا الاتجاه ينطبق على سياسات بيل كلينتون وباراك أوباما، وهو ما سينطبق غالباً على سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن.

لذلك يظلّ هامش التغيير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط محدوداً في طريقة إدارة الثوابت والتعامل التكتيكي والمرن مع التطورات. وهي في كل الأحوال لن تقف بجانب الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ولن تقوم بالوقوف مع الشعوب لتغيير الأنظمة الفاسدة والمستبدة ما دامت تخدم مصالحها، ولن تسمح لقوى المقاومة ولتيارات “الإسلام السياسي” بتولِّي زمام القيادة ما دامت تملك مشروعاً تغييرياً حضارياً نهضوياً مستقلاً. غير أنها قد تتعامل بواقعية وبراغماتية عندما تنجح الشعوب في فرض إرادتها، أو عندما تجري الأمور في غير مصلحتها. ولكنها سرعان ما تُعيد تموضعها بما يخدم إنفاذ سياستها من خلال دعم “عملائها” أو “حلفائها” المحليين، أو بوسائل الإفشال والإسقاط المختلفة لإعادة تطويع النظام السياسي بما يتوافق مع مصلحتها.

وفي الختام يجب أن نشير إلى أن السياسة الأمريكية ليست “قدراً مفروضاً”، بل تدخل في سنن “التدافع” و”التداول”. والأمة وشعوبها حين تحسم أمرها، وتُصِرّ على تحقيق استقلالها، ستكون قادرة- بإذن الله- على فرض إرادتها، والسير في دروب نهضتها، سواء أحبت أمريكا أم كرهت.

المصدر: TRT

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

مقالات ذات صلة

علق على هذه المادة

التعليقات تعبر عن رأي صاحبها فقط ... كما يرجى الالتزام بالأداب العامة

75 − 70 =