Ξ بقلم رحمان النوضة
في بيان للسلطة السياسية بالمغرب، الصّادر في يوم 9 نونبر 2020، المُخصّص لِوضع إستراتيجية التلقيح ضد فيروس “كوفيد 19“، قَرَّرت السلطة السياسية إنجاز عملية التَّلْـقِيح ضدّ “كُوفيد 19” لِصَالِح كل السّكّان. وهذا القرار هو إجراء جيّد. لكن، لِأَيَّة فِئَة من المواطنين سَنُعطي الأسبقية في عملية التلقيح؟
مِن الناحية المنطقية، ينبغي أن يكون الترتيب في أسبقيات تلقيح المواطنين كما يلي:
1) العاملين في ميدان الصحة.
2) الأشخاص الأكثر عُرضة لخطر الموت بسبب الإصابة بِفِيرُوس “كُرُونَا 19” (وهم الأشخاص ذوي سِنٍّ يتجاوز 65 عامًا، أو الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة، مثل السكّري، والقلب، والشرايين، والضغط الدموي، أمراض الرِّئَة، القُصُور الكَلَوِي، إلى آخره. وكل هذه الأمراض تهلك «مَنَاعَة» الجسم لدى الإنسان)؛
3) باقي السكان.
لكن السلطة السياسية بالمغرب قرّرت ترتيبًا مخالفًا في عملية التلقيح، ومنحت الأسبقية لِمُوظفي أجهزة وزارة الداخلية، والأجهزة القمعية. حيث حَدَّدَ البيان الرسمي الصادر في 9 نونبر 2020 الأَسْبَـقِيَّات كما يلي: «وَسَتُعطى الأولوية على الخصوص للعاملين في الخطوط الأمامية، وخاصة العاملين في مجال الصحة، والسلطات العمومية، وقوات الأمن والعاملين بقطاع التربية الوطنية، وكذا الأشخاص المسنين والفئات الهشة للفيروس، وذلك قبل توسيع نطاقها على باقي الساكنة». بمعنى أن «الأشخاص المُسِنِّين»، و«الفئات الهَشَّة للفِيرُوس» سَتُلَقَّحُ مِن بَعد تلقيح موظفي «السلطات العمومية»، والإدارات التابعة لوزارة الداخلية، وأفراد الأجهزة القمعية (مثل الشرطة، البوليس، المخابرات، الدرك، القوات المساعدة، القوات الخاصة، الجيش، إلى آخره). وَلَوْ أن هؤلاء الموظفين هم شُبّان وأَصِحَّاء في غالبيتهم. وهذا ترتيب مُؤْسِف للأسبقيّات، لأنه تَلَافَى إعطاء الأسبقية للأشخاص الأكثر عُرضة لخطر الموت. ولأن التجربة، في كل بلدان العالم، بَيَّنت أن أكثر مِن 80 في المِئَة من الموتى ضحايا فيروس “كُوفِيد 19” هم مِن الأشخاص الذين يتجاوز عمرهم 60 سنة.
لماذا إذن هذا الاختيار المُؤْسِف؟ هل لأن أغلبية المسؤولين الذين هم أعضاء في ذلك المجلس “الأمني” المصغّر هم مِن قيادات الأجهزة القمعية؟ هل لأنهم فضلوا خدمة أنفسهم في المقام الأول؟ هل، كما طرح البعض، لأن الدولة القمعية تُعطي تِلْـقَائِيًّا الأسبقية للأجهزتها القمعية؟
والتبرير الرسمي الوارد في بلاغ 9 نونبر 2020 يقول: «سَتُعطى الأولوية على الخصوص للعاملين في الخطوط الأمامية». لكن ما المقصود بِعبارة «الخطوط الأمامية»؟ وهذه «الخطوط الأمامية» تُوجد في أي صِدَام؟ أو في أَيّة مواجهة؟ أو في أية حرب؟ وهل يُوجد صراع أو صدام خطير في المغرب؟ هل يُوجد المغرب في حالة “حرب سياسية”، أو “حرب أهلية”؟
وبرّرت أجهزة أخرى تَابِعة للدولة تلك الأسبقيّات المؤسفة بِـكون أفراد الأجهزة القمعية يقومون بِـ «وظائف استراتيجية»؟ لكن ما معنى «الوظائف الاستراتيجية»؟ وهل الوظائف الأخرى، والمهن الأخرى، والأعمال الأخرى، التي يقوم بها باقي المواطنين، هل هي غير «استراتيجية»؟ هل العامل، والفلاح، والمأجور، والتاجر الصغير، والصانع، والمعلم، والطالب، والتلميذ، والعالم، والباحث، والمفكّر، والمقاول، والمرأة في المنزل، والمتـقاعد، وغيرهم، هل هم غير «استراتيجيّين»؟ هل نحن في «دولة الحق والقانون»، أم أننا في دولة بوليسية أنانية؟ وهل القمع هو حَـقًّا «الوظيفة الاستراتيجية» الأساسية للدولة؟ مِن أين أتى هذا المنطق الجديد الغريب، وغير الدستوري؟ وإلى أين يمكن أن يقودنا هذا المنطق «البوليسي» الغريب؟
وفي مقارنة مع فرنسا، أعلن الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، في خطاب ألقاه يوم 24 نونبر 2020، أن الأسبقية في التلقيح سَتُعْطَى للأشخاص المُهدَّدِين أكثر من غيرهم من طرف فيروس “كوفيد 19“، وهم الأشخاص الموجودن في “مؤسّـسات إقامة كبار السّن المُعَالِين” (EHPAD)، وعموم كبار السّن، والأشخاص ذوي الأمراض المُزْمِنَة (مثل أمراض القلب، والشرايين، والسكّري، والضغط الدموي، إلى آخره). ولم يتكلم الرئيس ماكرون عن منح أية أسبقية، أو أيّ امتيّاز، لموظفي السلطات العمومية، ولا للأجهزة القمعية، ولا للجيش.
هل إعطاء الأسبقية لأفراد الأجهزة القمعية، في عملية التلقيح ضدّ فيروس “كُوفِيد 19“، يُؤكّد الأطروحة القائلة أن الدولة في المغرب هي «دولة بُوليسية» ؟
يعلم المواطنون المغاربة أن أفراد “السُّلُطَات العمومية”، ووزارة الداخلية، والأجهزة القمعية، يحصلون، ومنذ زمان، على «أسبقيّات»، وعلى «امتيَّازات»، متنوّْعة ومتعدِّدة. منها مثلًا «امتيازات»، أو «تسهيلَات»، أو «تخفيضات»، في السّكن، أو في الأجرة، أو في التنقل عبر القطار أو الطائرة، أو في العلاج الطِبِّي، أو في التَـقَاعُد، أو في الشُّغل المضمون مَدَى الحياة، إلى آخره. وفي موضوع امتيّاز «الشُّغل المضمون على مدى الحياة»، نَسْأَل : إذا كان مثلًا «التَعَاقُد» المفروض على بعض المعلّمِين والأساتذة عَادِلًا وَقَانُونيا، فلماذا لَا تُطبّـقه الدولة كذلك على أفراد “السلطات العُمومية”، والأجهزة القمعية؟
وهكذا، قد تظهر بعض التطورات التي تحدث في الساحة السياسية تَافِهَة، أو عادية، لكنها قد تُعَبِّر، في حالات أخرى، عن حُدوث تغييرات سياسية كَـيْـفِـيَـة في الدولة، وفي المُجتمع.