Ξ بقلم عبد الرحيم التوراني
“شَدّينَا الاسْتِقْلال ونْدَمْنَا”..!
كنت أسمعها صغيرا من أفواه من عاشوا فترة الاستعمار، ومنهم من كان في صفوف المقاومة والفداء، ولم أكن أستوعب جيدا مغزاها.
ولم تغب هذه العبارة المشحونة بالغبن وبالمرارة عن مسامعي، لما وعيت وأدركت حقيقة الخذلان والمأساة في رنّات حروفها الجارحة. يكررها من يترحمون اليوم على الماضي، ولو كان عهد استعمار واحتلال بغيض.
لقد تحول الاحتفال بذكرى الاستقلال إلى مجرد “عطلة رسمية”، فارغة من مدلولها ومضمونها التاريخي والوجداني.
وأصبح التساؤل حول حقيقة الذكرى والمناسبة يأخذ شيئا فشيئا مشروعية السؤال والنفي.
“آش من استقلال أو زعتر؟ّ!” يرد علي مراهق اكتهل قبل الأوان…
عن أي استقلال يتحدثون؟
هل هذا هو الاستقلال الذي حلم به الشهداء والمقاومون الحقيقيون والرجال والنساء الذين ضحوا من أجل حرية الوطن واستقلاله وتحرره؟
إن ما نراه شاخصا هو أن المغرب يعود ويتراجع الى الوراء بدل المضي نحو المستقبل، ولا تشر لي بأصبعك إلى البنيان الشاهق أو إلى القطار السريع والخطب الرنانة والقوانين العصية على الأجرأة فوق أرض الواقع، ما دام البلد لا يسير على طريق المستقبل القويم، زائغا عن سكة التقدم والتطور. فما حققه ضابط الحماية الاستعمارية مجدد النظام المخزني الماريشال ليوطي في غضون 13 سنة فقط من حكمه للمغرب، عجز عنه من تولوا الأمر في ستة عقود من الاستقلال. فلتدع كليشيهاتك التضليلية التي تزعم أن “المغرب أجمل بلد في العالم” في الصندوق الأسود لكاميرتك المضببة. فقد صارت الوطنية مدعاة للسخرية والاستهجان، ومقولة “الوطنية للفقراء والوطن للأغنياء” تترسخ بعناد وقح أمام الأبصار والأفئدة.
ولستُ متشائما أو عدميا. فدائما أشحن بطارية الأمل فيٌصرّ الواقع العنيد على تكذيبها، وما زلت مع العديدين على باب الأمل..
لكن البلد يغرق، يقول الخبراء، وتدعم أقوالهم تقارير ضافية لمنظمات دولية على اختلاف اهتماماتها، وشبابنا يغوص في أوحال الفراغ والبطالة والفشل والتهميش واليأس و”التشرميل”… يركبون بالمئات يوميا قوارب الموت ويهربون صوب المجهول، بحثا عن ما يمكن أن يضخ فيهم دم حب الحياة، عن سماء تزرع فيهم فخرالانتماء من أجل البناء وشحذ الهمم والعزائم لكسب رهانات الحاضر والمستقبل.
لكن من أين يمكن ابتياع روح الأمل، وما بقي أكمله الوباء اللعين…
فإلى أين المفر؟!
***
مرة، قبل أعوام قليلة، وجدتني عند مصلح أحذية في حي المعاريف بالدار البيضاء، من أجل لصق كعب حذاء سقط، كان “الخراز” رجلا طاعنا في السن، يحني رأسه ويلصق لفافة تبغ أسود بين شفتيه تحت شنب أبيض. وقفت أمامه أنتظر إعادة حذائي إلى جادة الصواب. وعبثا حاولت استدراجه إلى الكلام، فلم أفلح. وجاءت سيدة تبحث عن عنوان لعيادة طبيب، فدللتها عليه، قلت لها إن العيادة توجد بشارع محمد الزرقطوني قبل بداية شارع المقاومة. ما أن سمع الشيخ كلمة المقاومة واسم الشهيد حتى توقف عن عمله ورفع رأسه نحوي، وقهقه ساخرا:
– ههه… ما أسخفه؟
لم أفهم ما يقصده الشيخ، فسألته، هل تعني الطبيب الذي سألت عنه المرأة، هل تعرفه؟
حرك الخراز رأسه، ورد علي بوضوح صادم:
– أنا أعني ذاك الذي ابتلع قرص سم ليموت فداء للوطن.
أمن أجل أن تؤول الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم يقتل الإنسان نفسه. لا أعتقد أنه كان سيفعل لو تصور لحظة ما سيؤول إليه حال الوطن اليوم! همش المقاومون واستولى على البلد الخونة وأبناؤهم. هل نسمي هذا استقلالا؟!
***
الجميع يعرف ماذا ستكون الإجابة إذا ما طرحنا السؤال على الشباب عما يعنيه لهم عيد الاستقلال اليوم، وما الذي ينبغي لتحقيق معانيه؟
فإذا كانت الأجيال السابقة ندمت على تحقيق الاستقلال، فإن الأجيال الحالية تندم الآن أكثر على العيش في ظل واقع البؤس والقهر والحرمان الذي تحقق مع سنوات الاستقلال.
إن السياسة اللاشعبية المنتهجة منذ عقود لم تعمل سوى على تهميش أكبر لأجيالالشباب المتوالية،فسرقت منهمكل الأمل والكرامة والحلم بالمستقبل، حين أنشأتهم على الحرمان والغضب والضياع، وصنعت منهم احتياطيا هائلا من اليأس والقهر والتجهيل برسم استغلاله من طرف الجماعات الظلامية المتغولة.
بعد اعتلاء محمد السادس العرش، استعاد المغاربة الأمل. لكن سرعان ما انفرطت الآمال، ثم شاهدنا عودة تدريجية لسنوات الرصاص كما هو متعارف عليها، وكيف انتهز الظلاميون الفرصة وامتطوا صهوة”حركة 20 فبراير”، باسم محاربة الفساد والاستبداد، فأفاق الناس على أنهم ليسوا سوى الفساد بلون آخر، فساد ملتح ومجلبب، وبربطة عنق أيضا. “علاش لاّ”…
وكل عيد استقلال ونحن “جالسون نربي الأمل” كما قال ذات مرة محمود درويش.