عبد الله معروف •
الإحتلال الإسرائيلي سعى منذ تفجر جائحة كورونا لاستغلال أي فرصةٍ ممكنة للانقلاب على فشله في أحداث هبة باب الرحمة عام 2019 وأحداث هبة باب الأسباط عام 2017، ولعله لا يوجد لديه فرصةُ ذهبيةُ أقوى من هذه الفرصة لإجراء تغيير شاملٍ في المسجد الأقصى المبارك
ربما لم يعد يخفى على عاقلٍ أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تسعى بشكل مكشوفٍ الآن لتغيير الوضع القانوني القائم في المواقع الإسلامية المقدسة في القدس، والكلام تحديداً عن المسجد الأقصى المبارك الذي أصبح الآن بؤرةً للصراع في المدينة المقدسة.
تقود حكومة الاحتلال هذا الصراع من خلال ذراعها غير الرسمي الذي يمثله ما يسمى “اتحاد منظمات المعبد”، ويقوده شخصيات شديدة التطرف مثل الحاخام المتطرف يهودا غليك عضو الكنيست الإسرائيلي السابق، والمتطرف أساف فريد المتحدث باسم الاتحاد، والذي تنتمي إليه بعض الشخصيات الحكومية مثل وزيرة الاستيطان الحالية تسيبي حوطبلي، ووزير شؤون القدس الحالي الحاخام رافي بيريتس، ووزير الزراعة السابق أوري أرئيل وغيرهم.
النفوذ الكبير الذي باتت تتمتع به هذه الجماعات المتطرفة يجعل قضيةً بحجم تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى تقفز إلى أعلى سلم أولويات حكومة نتنياهو الحالية المدعومة من اليمين المتطرف، وهو ما يعني أن ترتيبات الوضع النهائي التي بدأ بها نتنياهو منذ حوالي ثلاث سنوات بشكل منفرد بالتعاون مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، من خلال صهره جاريد كوشنر وسفيره في إسرائيل ديفيد فريدمان، بدأت تأخذ شكلها النهائي بعملية الضم المرتقبة لمناطق الأغوار وغالبية أراضي الضفة الغربية.
ولذلك فإن الاحتلال سعى منذ تفجر أزمة جائحة كورونا إلى استغلال أي فرصةٍ ممكنة للانقلاب على فشله في أحداث هبة باب الرحمة عام 2019 وأحداث هبة باب الأسباط عام 2017، ولعله لا يوجد لديه فرصةُ ذهبيةُ أقوى من هذه الفرصة لإجراء تغيير شاملٍ في المسجد الأقصى المبارك يتضمن تثبيت التقسيم الزماني للمسجد بين المسلمين واليهود، واستحداث معادلة المساواة بين المسلمين واليهود في الحقوق الدينية داخل المسجد، ممَّا يفتح المجال واسعاً أمام دولة الاحتلال للسعي لتثبيت واقع جديد على الأرض يتمثل باستقطاع أجزاء من أرضية المسجد لصالح الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة التي تقتحم المسجد يومياً.
وبدأ ذلك بالفعل منذ اليوم الأول لفتح المسجد بعد جائحة كورونا، والذي أصرت دولة الاحتلال على أن يكون يوم الأحد لفتحه بالتساوي للمسلمين واليهود في نفس الوقت.
حيث بدأت قوات الاحتلال منذ ذلك اليوم في إجراء تعديلات في حركة المسلمين في المسجد تهدف علانيةً لتفريغ مسار جولات المتطرفين داخل المسجد من المسلمين تماماً، وإفساح المجال للحاخامات لقيادة المتطرفين في صلوات علنيةٍ داخل المسجد، لا سيما في المنطقة الشرقية الملاصقة لمصلى باب الرحمة، مروراً بالمطالبة بالسماح لليهود باستعمال سبل الماء للشرب في المسجد أسوةً بالمسلمين، ووصولاً إلى تخصيص مواقع لجلوس المتطرفين داخل المسجد لأخذ الدروس الدينية من الحاخامات المرافقين لهم، الذين وصل الأمر بهم، بالمقابل، إلى إعلان إنشاء مدرسةٍ دينية (ياشيفا) مقرها المعلن داخل المسجد الأقصى المبارك، ويقومون بتقديم دروسهم وعظاتهم الدينية وصلواتهم باسمها داخل المسجد!
أما في الشق السياسي من المعادلة، فإن هناك أحداثاً تنبئ بمحاولة الاحتلال جر الأردن للتنازل في موضوع الدور الحصري للمسجد الأقصى المبارك والوصاية عليه، والقبول مبدئياً بإدارةٍ مشتركةٍ إسرائيلية أردنية، وهذه، في حال تمكن دولة الاحتلال من تحقيقها، ستكون مقدمةٍ للتغول على الدور الأردني مستقبلاً بقوة الأمر الواقع ووضع اليد، وسيؤدي ذلك مستقبلاً، لو تم، إلى تقزيم الدور الأردني حتى القضاء عليه نهائياً أو تحديده في إطارٍ شرفِيٍّ لا يتجاوز مهمات إدارة شؤون الصلاة والإمامة في المسجد للمسلمين فقط، وهنا يكمن الخطر!
على أن ذلك لا يتم بشكل مباشر حالياً، وإنما تقوم به دولة الاحتلال من خلال محاولة إثارة حفيظة السلطات الأردنية ضد محيطها الإسلامي، وخلقِ حالة استقطابٍ حادة مفتعلة، واختلاق منافسةٍ وهمية بين الأردن والدول الإقليمية الأكثر أهمية وعلى رأسها تركيا.
نستذكر في هذا الشأن ما قامت به صحيفة (إسرائيل هيوم) المقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أسابيع، عندما نشرت تقريراً يدعي أن هناك ترتيباتٍ تجري وراء الأبواب المغلقة لأجل منح السعودية دوراً في إدارة شؤون المسجد الأقصى، وذلك، بحسب زعم الصحيفة، للوقوف في وجه النفوذ التركي في القدس.
وهذا التقرير في الواقع كان يهدف إلى ضرب عصفورين بحجر واحد: زرع إسفينٍ بين الأردن وتركيا فيما يتعلق بالوجود التركي في القدس، ورفع فزاعة الدور السعودي كبديلٍ للأردن بما يمكن أن يؤدي إلى تنازل الأردن عن صلابة موقفه في مسألة الوصاية على الأماكن المقدسة والدور الأردني في القدس، وقبوله التفاوض عليها مع دولة الاحتلال خوفاً من أن يتم استبعاده نهائياً.
وهذه اللعبة السياسية تحاول في الحقيقة زج الأردن في الزاوية، حيث إنها ترفع ورقة السعودية في وجه الأردن في نفس الوقت الذي تبعده عن التفاهم مع تركيا. وإقحام تركيا في هذه اللعبة ينبع بالدرجة الأولى من فهم الاحتلال أن تركيا يمكن أن تشكل بديلاً في خريطة التحالفات لدى الأردن.
فقد سبق للأردن أن لوّح بالورقة التركية التي تخشاها دولة الاحتلال منتصف عام 2018، عندما تجاهل الأردن كافة الضغوط السعودية والمصرية والإسرائيلية وشارك في القمة الإسلامية الطارئة التي عقدت في إسطنبول رداً على قرار الإدارة الأمريكية الاعتراف بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال.
وكان اللافت للنظر يومها حرص العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني على اصطحاب أشقائه الأربعة إلى القمة، في رسالةٍ بدت يومها شديدة اللهجة تجاه الأطراف المعادية لتركيا في المنطقة، كان مفادها أن الأردن لديه خيارات كثيرة يمكن أن ينحاز إليها رداً على أي محاولات من الطرف الإسرائيلي وحلفائه لسحب أو إضعاف الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة في القدس، لكونَ هذه الوصاية تمثل عماد شرعية مؤسسة العرش في الأردن.
ويبدو اليوم أن الاحتلال تعلم من دروس التاريخ القريب، فهو يحاول في الوقت الحالي اللعب على وتر الحساسية الأردنية من أي منافسةٍ في دوره المركزي في القدس بإبعاده عن الخيارات التي يخشاها الاحتلال، أي الانحياز إلى تركيا، وذلك عبر استفزاز الأخيرة لتبدي موقفاً يمكن أن يفهم منه محاولة لعب دور أكبر في القدس، بما قد يثير حفيظة الأردن بالمقابل.
وفي هذا الصدد قامت سلطات الاحتلال قبل أسبوع بنزع لوحاتٍ تذكاريةٍ لمشاريع الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، وهي ذراع حكومي تركي، في القدس، وكان لافتاً استعراض شرطة الاحتلال نفسها وهي تدمر هذه اللوحات وتركز على تدمير العلم التركي فوق هذه اللوحات، بما قد يثير حفيظة تركيا ويدفعها إلى إعطاء تصريحات أو أفعال يمكن من خلالها أن يلعب الاحتلال هذه الورقة في وجه الأردن، ويوهمه أن تركيا ترغب بلعب دور الشريك في القدس وتزاحم الأردن في دوره في الأماكن المقدسة، بالرغم من النفي التركي المتكرر لذلك.
لهذا كله ينبغي على الطرفين الأردني والتركي الحرص على عدم الانزلاق في المكيدة الإسرائيلية، والحرص على خوض المعركة في القدس بشكل موحد بعيداً عن الفخ الذي ينصبه الاحتلال، فالثابت الوحيد في هذه المعادلة أن الطرف الوحيد الذي لا يقبل الشراكة في السيادة على القدس أو حتى الوجود فيها من أي طرف آخر هو الطرف الإسرائيلي، فهو الطرف الوحيد الذي تقوم عقيدته السياسية والفكرية على مبدأ الاستبعاد التام للآخر والاستفراد بالسيادة على القدس وتغييره هويتها الحضارية والتاريخية، سواء الآن أو بعد حين.