فراس أبو هلال •
ليست القدس أو المسجد الأقصى مجرد مقال في موقع إلكتروني، ولا بيانا سياسيا لفصيل فلسطيني أو لحزب عربي خامل لا يملك من أمره إلا إصدار البيانات، ولا مرسوما حكوميا يقرر إن كان الأقصى رمزا لجماهير أمة إسلامية تمتد من شرق الأرض إلى مغربها أو أنه “أكذوبة” تاريخية.. فالأقصى أكبر من الحكومات، ومن إعلامها، ومن بيانات مؤيديه وكارهيه، ومن فذلكات “باحثين” يبحثون عن الإثارة بدلا من البحث في مصادر الكتب والتاريخ!
القدس آية في قرآن المسلمين، وكنيسة قيامة للمسيحيين، وسورة في كتاب العاشقين، ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء، ودرب آلام المسيح عليه السلام. في جنباتها عبق التاريخ، وعلى حجار طرقات بلدتها القديمة ترك الزمان ملامحه عبر آلاف السنوات، تحت كل حجر فيها قصة، وفي ظل كل جدار انتصار أو هزيمة، وخلف كل باب حكايات تمتد لسنوات أطول من عمر دولة الاحتلال، ودول أخرى تريد دخول التاريخ عبر بوابة هذا الاحتلال!
في القدس راحلة عمر التي أقلته في رحلة استلام المدينة ذات انتصار، ورحيق دماء شهداء التحرير مع صلاح الدين، وعرق أيار على قمصان رجال عبد القادر الحسيني، وبقايا شماغات حمر لعبد الله التل امتدت هدبها من إربد إلى البلد القديمة، وحفنة مسك من أحفاد ثورة العشرين في العراق ماتوا على أبوابها، وصرخات شاب مصري حمل في قلبه صورة زوجته الجديدة وجاء من “نجع” لم يذكر التاريخ اسمه قبل موته أمام باب المغاربة، وبدوي رحل من جزيرة العرب دفاعا عن إرث أجداده من الصحابة، ومصاطب علم تصل الأرض بالسماء، وأبواب تحكي أحجار أقواسها قصصا لا تنتهي من العشق والفداء.
القدس طريق مكة للمعراج، وأخت المدينة، ثالث المسجدين، وقبلة المسلمين الأولى، وقبلة عاشقي العدل والحق في كل الكون إلى آخر الزمان، كانت زيارتها قديما مسك ختام بعد رحلة الحج، وبعد احتلالها صارت أفئدة أحرار العالم تحج إليها كل يوم، كانت عاصمة الأرض، وستبقى عاصمتها إلى أبد الآبدين.
القدس عصارة رائحة التاريخ، بيوت لم يتغير شكلها منذ قرون، وشوارع ضيقة حميمة رصفت بالوجد والحنين والوجد، مطاعم يتوارثها الأبناء والأحفاد جيلا بعد جيل، ودكان صغير رفض صاحبها العجوز الفقير بيعها بملايين الدولارات، ومخابز الكعك القدسي المسمسم المخبوز بنار قلوب العاشقين، ورائحة البخور والبهارات في محل عطارة يعرف صاحبه أسماء كل الزبائن وطبائعهم وقصصهم وبطولاتهم وهفواتهم البشرية الصغيرة، ومقهى عتيق صنعت كراسيه من شجرة رومية عمرها ألف عام، وكاسة شاي في زقاق مرّ فيه كنعاني اخترع الأبجدية في حروفها الأولى، ورائحة الميرمية التي صنع الفلسطيني عنها آلاف الأساطير، وبقايا صندوق عرس لعجوز “دق” التاريخ سطوره على جبينها فزادها شبابا كل يوم.
القدس عائلة خليلية رحل قلبها من حرم أبي الأنبياء إبراهيم وحفرت جذورها في حوش عتيق لم يتغير طعم هوائه بعد ألف ألف سنة، نسمة “عصر” في انتظار أذان المغرب من مآذن شاخصة نحو السماء ومغروسة عميقا في الأرض بعيدا عن حفريات جرافات المحتلين، صوت محمد رشاد الشريف يموت واقفا على عكازه يرتل آيات الإسراء، وساحات كتبت خطى العاشقين عليها فرحة المرور من الحواجز لصلاة الجمعة أو التراويح بعد ساعات من المسير المضني عبر الطرق الضيقة المخفية.
القدس والأقصى لن تسقط رمزيتهما بمقال أو مدونة أو ورقة “بحثية” أو مقابلة تلفزيونية أعدت على عجل في موسم الهجرة إلى تل أبيب. فاكتبوا ما شئتم عنها، وانبشوا كتب التاريخ ما شئتم، فحجارة القدس أصدق من كل ما كتب وسيكتب إلى يوم الدين.