همس نيوز ـ بلجيكا
يعرف مرض النقرس باسم «مرض الملوك»؛ لما يُشاع عنه بأن تناول الكثير من اللحوم الحمراء والحياة المرفهة هي السبب في الإصابة به، ولكن مرض النقرس أكثر تعقيدًا من ذلك. يعتبر مرض النقرس هو أحد الأشكال الشائعة والمعقدة لالتهاب المفاصل، ويصيب صاحبه بنوبات مفاجئة وشديدة من الألم، خاصة في مفصل إصبع القدم الكبير، كما يصيب المريض بالتورم والاحمرار مكان المفاصل، ويشعر المريض بألم شديد قد يبقيه ليلًا متألمًا دون القدرة على الراحة، وتصبح حتى ملامسة الأماكن الملتهبة من المفاصل في الجسم بمثابة عذاب حرفي للمريض، خاصة عندما يتحول الألم إلى الشعور بحرارة حارقة في المفاصل.
ما هو النقرس؟
يكون الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالنقرس إذا كان جسده يحتوي على نسبة عالية من حمض اليوريك، وزيادة معدل هذا الحمض تعود إلى عدة أسباب يعتبر أهمها النظام الغذائي للمريض في حالة ما كان يتناول الكثير من اللحوم الحمراء، والمأكولات البحرية، والكحول، وسكر الفاكهة.
ولكن هناك أيضًا أسبابًا مهمة للإصابة بالمرض، مثل السمنة، والتي يكون لها دور كبير في زيادة إفراز حمض اليوريك في الجسم، كما أن المصابين بأمراض مزمنة – مثل ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب والكلى – يكونون أكثر عرضة للإصابة بالنقرس، وهناك أيضًا بعض العقاقير الطبية التي تساعد على ظهور هذا المرض مثل العقاقير المدرة للبول، خاصة التي تحتوي منها على مادة الثيازايد.
وتشير العديد من الدراسات أن عدد حالات الإصابة بمرض النقرس في تزايد مستمر خلال العقود الأخيرة، وكان السبب في الكثير من الوفيات المرتبطة بأمراض القلب الوعائية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وربما لا يعد ذلك خبرًا غريبًا، خاصة أن بريطانيا لها تاريخ حافل مع هذا المرض، والذي وصل إلى حد الوباء خلال القرن الثامن عشر، وفي النقاط التالية نشرح لكم كيف تحول مرض مثل النقرس إلى وباء في ذاك الوقت ببريطانيا.
«آلام نبيلة» تهاجم الملوك والجنرالات والفلاسفة
في الوقت الحاضر، وعلى الرغم من انتشار الحالات المصابة بالنقرس، إلا أنه لا يعد وباءً بعد أن اكتشفت طرق العلاج والوقاية من هذا المرض من خلال الرعاية الطبية الكافية، وتناول العقاقير المخصصة للمرض، أما في القرن الثامن عشر فقد كان الأمر مختلفًا عن الآن.
خلال القرن الثامن عشر في بريطانيا بدأ مرض النقرس في مهاجمة الطبقة الأرستقراطية، وبعض الأطباء في ذلك الوقت رجحوا أنه مرض وراثي يسير بين أبناء تلك الطبقة، ودوّن الطبيب البريطاني توماس سيدنهام في ملاحظاته؛ والذي كان نفسه يعاني من المرض، أن تلك الآلام التي تصيب مريض النقرس آلام نبيلة لا تصيب سوى الملوك والأمراء والجنرالات والفلاسفة، وهذا التفسير لم يكن بعيدًا عن الواقع، ولكنه لم يكن له علاقة بنبل المريض، بل كان له علاقة بثروته التي توفر له النظام الغذائي وأسلوب الحياة الذي يجعله أكثر عرضة للمرض.
في ذاك الوقت كانت الإمبراطورية البريطانية آخذه في الاتساع، وتوفر الثروات للطبقة الارستقراطية، فتحولت اللحوم والكحوليات إلى قواسم مشتركة بين هذه الطبقة التي تمتعت بالرفاهية، وساهمت واردات السكر من منطقة الكاريبي في زيادة هائلة للوجبات المحلاة على موائد الأثرياء، وبهذا الشكل أدخل النبلاء في بريطانيا مرض النقرس إلى البلد وحولوه إلى وباء يقضم مفاصلهم واحدًا تلو الآخر.
ساهمت السياسة الخارجية لبريطانيا في القرن الثامن عشر دون قصد في زيادة انتشار وباء النقرس، فبعد عقد معاهدة ميثون مع البرتغال استطاعت بريطانيا وضع يدها على كميات أكبر من النبيذ الفرنسي، وبالطبع كل زجاجات الكحول التي تصل للإمبراطورية البريطانية تستقر في النهاية بقصور الملوك والنبلاء. احتساء الكحول وحده زاد من انتشار مرض النقرس لديهم، ولكن أيضًا النبيذ في هذا الوقت كان ملوثًا بالرصاص بسبب طرق حفظه الخاطئة، والرصاص له القدرة على زيادة حمض اليوريك، والذي يتسبب بدوره في الإصابة بمرض النقرس.
«يجعل الرجال أكثر فحولة».. «النقرس علاج وليس مرضًا»!
وقتها لم يفهم الأطباء طبيعة مرض النقرس، وبالتالي لم يجدوا له علاجًا، فكان مرضًا ملازمًا لصاحبه طوال العمر، ومن هنا بدأت التفسيرات الغريبة للمرض، ومحاولة التعايش الفكري معه، وفي إحدى كتاباته ذكر الكاتب الأيرلندي جوناثان سويفت مرض النقرس واصفًا إياه أنه المرض الذي يمنح صاحبه الفرح والعمر المديد، وانتشرت شائعات في القرن الثامن عشر في بريطانيا أن النقرس ليس مرضًا، بل هو علاج يحمي أصحابه من الأمراض الأخرى السيئة، ولذلك – من وجهة نظرهم – لم يتمكنوا من إيجاد أي علاجات تتخلص من أعراضه.
وتحول المرض من مرض مؤلم قاتل في أذهان المرضى، إلى وباء شاعري أنيق مرتبط بالملوك والنبلاء، وحتى الكتاب والشعراء، فقد كتب الكاتب البريطاني هوراس والبول، والذي كان مصابًا بالمرض، أنه لا يتمنى الشفاء من النقرس؛ لأنه يعتقد أن النقرس علاج، وليس مرضًا، وتوالت محاولات تمجيد هذا المرض بالادعاء أنه يجعل الرجال أكثر فحولة، ويعيد لهم زهرة الشباب.
كيف أثر وباء النقرس على مستقبل أمريكا وبريطانيا؟
وليام بيت الأصغر كان رجل دولة بارز من حزب المحافظين البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وكان أصغر رئيس وزراء لبريطانيا العظمى، وأول رئيس وزراء للمملكة المتحدة، وأصيب بيت بالمرض، ما منعه من حضور البرلمان البريطاني، والذي كان في أجندته مجادلته بشأن الضرائب الباهظة المفروضة على المستعمرات الأمريكية، والتي ظن بيت أنها قد تتسبب في القيام بثورة ضد بريطانيا، ولكن بسبب إصابته بمرض النقرس وغيابه عن البرلمان، فرضت تلك الضرائب على المستعمرات الأمريكية، خاصة على منتج واحد وهو: الشاي؛ الأمر الذي تسبب في غضب أمريكي نتجت عنه «مجزرة بوسطن».
وقعت مجزرة بوسطن نتيجة اشتعال الاحتجاجات في أمريكا على فرض ضرائب باهظة على الشاي، خاصة في مدينة بوسطن؛ إذ تصدى الجنود البريطانيون للمتظاهرين، وقتلوا منهم خمسة أشخاص، وبعد ثلاث سنوات من من تلك المجزرة، وبالتحديد في عام 1773؛ هاجم مجموعة من الثوريين الأمريكيين واحدة من السفن البريطانية المحملة بالشاي، وألقوا بحمولتها في البحر، في واقعة أطلق عليها المؤرخون «حفلة الشاي» الأمريكية، وكانت تلك الوقعة جنبًا إلى جنب مع مجزرة بوسطن بداية شرارة الثورة الأمريكية للاستقلال عن بريطانيا، وهو الحدث الذي لم يزل يحتفل به الأمريكيون في عيد الاستقلال بإلقاء الشاي في البحر تخليدًا لتلك الذكرى.
ويرى بعض المؤرخين، وعلى رأسهم روي بورتر، أن إصابة العديد من المسئولين والنبلاء ورجال الحكم بمرض النقرس كان عاملًا مُهمًا في سقوط القبضة البريطانية عن أمريكا، وضعف قوة الإمبراطورية بشكل عام في ذاك الوقت، وربما لا يعود هذا إلى انتشار الوباء نفسه بقدر ما يعود السبب إلى طريقة تعامل الأرستقراطيين في القرن الثامن عشر مع وباء النقرس على كونه منحة، وليس مرضًا، على الرغم مما يصاحبه من آلام جسيمة، ولذلك كان الأسهل عليهم تجاهل أعراض المرض القاتلة والمؤلمة، وصبغ هذا المرض بصبغة النبل والشاعرية، والغوص في الإنكار؛ حتى سيطر المرض عليهم، وأدى بشكل غير مباشر لإضعاف أدائهم في السياسة والمتابعة والإدارة، ومن ثم أثر بشكل غير مباشر على قوة الإمبراطورية البريطانية ككل.
المصدر : ساسة بوست