- كمال ازنيدر
في الوقت الذي دعت فيه السلطات المغربية المواطنين المغاربة إلى ضرورة الالتزام بالبقاء بالبيوت وعدم الخروج منها إلا للضرورة القصوى، شهدت مدن طنجة، تطوان، فاس وسلا، في ساعات متأخرة من مساء السبت الماضي خروج أعداد من الشباب في مسيرات وهم يرفعون شعارات دينية وشعبية من قبيل “كورونا سيري بحالك، المغرب ماشي ديالك”.
هذه المسيرات التي اهتز لها الرأي العام المغربي جاءت على خلفية دعوات فيسبوكية طالبت بترديد الأذان وقراءة الأذكار والآيات القرآنية من على الشرفات وأسطح المنازل، قبل أن يتحول الأمر إلى مسيرات تجوب الدروب والشوارع بكل حرية، في ظل غياب غريب للقوات الأمنية المكلفة بحفظ حالة الطوارئ الصحية.
أعداد من المتتبعين فسرت هذا المشهد المروع والصادم بكونه مسيرات احتجاجية ضد فيروس كورونا، وهذا تفسير خاطئ ينم عن جهل بالتعددية الثقافية المغربية. فما شاهدناه البارحة هو طقس من طقوس العصور الوسطى وربما أزمنة الجاهلية الأولى حيث جرت العادة أنه كلما أصيبت منطقة ما بالجفاف، الجوع أو أزمة ما كلما تجمع حشد من ساكنتها ليجولوا بعض أزقتها وشوارعها وهم يقومون بالدعاء وتلاوة بعض الأذكار والآيات القرآنية.
فمثلا قبل موعد صلاة الاستسقاء، تقوم مجموعة من المصلين بمسيرة تجوب الأزقة والشوارع المجاورة لمقر المصلى يتم خلالها رفع بعض الأدعية وترديد مجموعة من الأذكار والمقاطع القرآنية. بعض المرات يبدأ هذا النوع من المسيرات بعد أداء الصلاة بشكل تلقائي، من دون برمجة أو تخطيط مسبق بغية التضرع لله والتوسل منه رفع ما أصاب البلد والقوم من محنة وبلاء.
النوع هذا من مسيرات رفع البلاء، من منظري الإسلام من يعدونه بدعة من بدع الجاهلية الثانية، وبالتالي يستنكرونه ويحرمونه. ومنهم من يحللونه وينصحون الناس به بدعوى أنه امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى بأن يدعوه ويتضرعوا ويرفعوا حاجتهم إليه، وأنه لا يتضمن أي فعل منكر دينيا، إذ أنهم فيه فقط يتوجهون إلى رب العباد والسماوات والأرض بالصلاة والدعاء، ويكثرون من الاستغفار وطلب العون والغوث ممن بيده خزائن الكون كله.
وعلى أي، وبعيدا عن هذا الخلاف الفقهي، فهذا الطقس إن كان لا ضير فيه في حالات الجفاف والجوع، ففي وضعنا هذا هو مغامرة تنطوي على الكثير من المخاطر. مسيرات الخزي والعار هذه التي شهدتها البعض من مدننا المغربية هي ليست مجرد سلوك متهور بل هي أكثر من هذا بكثير، إذ أنها في ظل الظروف القائمة تعد سلوكا انتحاري وجريمة ضد الإنسانية.
فمن خرجوا البارحة لم يعرضوا فقط أنفسهم للخطر بل عرضوا معهم أهليهم وذويهم. بفضل حماقتهم وما ارتكبوه من جرم في حق أنفسهم وغيرهم، مدنا كانت بالأمس آمنة أصبحت اليوم في خطر. بسبب ما أقدموا عليه من فعل جنوني، كل المجهودات التي أقدمت عليها الحكومة للحد من انتشار وباء كورونا بمدنهم ومناطق سكناهم ذهبت سدى.
فعلهم الجنوني هذا نتجت عنه مجموعة من ردود الفعل. منها من تحلت بالعقلانية ومنها من لامست الجنون، متراوحة بين الاقتصار على الاستنكار والانتقاد فحسب و الذهاب إلى حد المطالبة بإعادة فتح معتقلات تزمامارت وسجن من دعوا إلى هذه المسيرات وإذاقتهم أشد العذاب فيها.
وفي نفس الصدد، قامت مجموعة من الهيآت الحقوقية برفع شكاية لرئيس النيابة العامة، ضد كل من رضوان بن عبد السلام وأشرف الحياني والمنشد تطواني، من أجل “جرائم إرهابية مست بشكل خطير الأمن والنظام العامين والعصيان وعرقلة لتنفيذ أشغال أمرت بها السلطات العمومية وإهانتها ومحاولة القتل العمد والتظاهر دون ترخيص والتحريض عليه وتكوين عصابة إجرامية لتخريب الصحة العمومية والمس الخطير بالنظام العام”.
المنشد تطواني، أول مرة أسمع به. أشرف الحياني، احتمال تورطه في هذه المسيرات احتمال قائم. أما رضوان بن عبد السلام فالمتتبع لمنشوراته يعلم جيدا أنه لم يهيج متتبعيه للنزول للشارع وأنه فقط رد على دعوات الرقص والغناء بالدعوة “لتجديد التوبة والصلاة والتضرع للخالق والدعاء بتجاوز المرحلة وتخفيف آثارها”.
لكن، وللأسف الشديد، هناك جهات تطرفت في علمانيتها وسعيها إلى حصر كل ما هو ديني في الفضاء الخاص. هي تعمل بكل ما أوتيت من قوة، مستعملة ما هو مشروع وغير مشروع، أخلاقي وغير أخلاقي، لمنع انتشار كل ما هو خطاب إسلامي في الفضاءات العامة وبما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي.
إمبرياليتها الثقافية هي نزعة عنصرية تدفعها إلى ممارسة القمع وشتى أساليب الخبث لفرض سيادة ثقافتها المشتركة والتي هي من وجهة نظرها “ثقافة سامية” وإقبار غيرها من الثقافات باعتبارها ثقافات “دنيا” أو “حقيرة”.
ميولاتها الثقافية التوسعية يمكن أن تتخذ شكل سلوكيات عدوانية تتبناها مجموعة من المفكرين والإعلاميين والسياسيين والحقوقيين، إلى آخره، الذين يتقاسمون نفس الثقافة ونفس الرغبة الجامحة في إبادة غيرها من الثقافات المنافسة ولو باستخدام الأكاذيب الأيديولوجية والتحاريف التاريخية والضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية وما إلى ذلك، بغية تيسير بسط سيطرتهم الفكرية على الشعب وجعله يعتنق ثقافتهم، نظمهم التعليمية، فنهم وطريقة تفكيرهم واستهلاكهم.
من بين أساليبها المستعملة وأسلحتها المفضلة، الاتهامات الكاذبة وتحريف الحقائق – كما سبق وذكر -. فهي لم تكتفي باتهام رضوان بن عبد السلام ظلما وعدوانا بالدعوة إلى العصيان المدني وخرق حالة الطوارئ الصحية التي أعلنتها السلطات المغربية، بل أيضا هي تعمل على زرع الشك في وطنيته بنشر إشاعة محرفة مفادها أنه عارض وانتقد دعوة بعض الفنانين المغاربة للخروج من شرفات وأسطح المنازل في وقت معين لغناء النشيد الوطني.
ومن يعلم جيدا أساليب هذه الجهات يعلم أن زرع الشك في وطنية داعية إسلامي هي تقنية تستعملها لفتح أبواب التشكيك في انتمائه لتنظيم الإخوان المسلمين، داعش، القاعدة وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. فهذه الجهات، منذ عقود طويلة وهي تسعى إلى علمنة الدولة المغربية. وفشلها في تحقيق هذا المسعى ولد بداخلها “عقدة الإسلامي”. ولهذا تراها اليوم تسعى بشتى الأساليب، النظيفة منها والأكثر حقارة، لعزل دعاة الإسلام “التقليديين منهم والحداثيين، الرجعيين منهم والتقدميين، المعتدلين منهم والمتطرفين، مسالمين كانوا أو إرهابيين” وتغييبهم عن المشهد العام.
هذا فيما يخص رضوان بن عبد السلام الذي أختلف معه وعنه شكلا ومضمونا، والذي إذا كان هو الشرق فأنا الغرب وإن كان هو الشمال فأنا الجنوب. أما فيما يخص أشرف الحياني، والذي سبق وقلت أن احتمال تورطه في هذه المسيرات هو احتمال قائم وقد قلت هذا بناء على صورة لتدوينة فيسبوكية تبنى فيها ضمنيا الدعوة إلى خروج الناس للشارع، فهو مجرد راقي فحسب.
والرقاة ببلدنا الحبيب، جلهم وربما كلهم، أجسامهم أجسام البغال وعقولهم عقول العصافير. بمعنى أن مستوياتهم الفكرية والمعارفية فهي جد متدنية. حتى الدين الذي يدعون العمل باسمه فهم لا يعلمون عنه سوى اللمم. فهم أناس اضطرتهم الظروف إلى هجر المدارس باكرا للعمل كميكانيكيين، حدادين أو نجارين، إلى آخره. وللرفع من مستوى دخلهم، احترفوا هذا الدجل وهذا الاستغلال لغباء فئات عريضة من المواطنين.
دجلهم هذا أكيد شيء منكر، خصوصا وأنه يمارس باسم الدين. لكنه شيء جاري به العمل في مجتمع كثر فيه الدجل باسم السياسة والحريات وحقوق الإنسان، وكذا الاسترزاق باسم العمل الحزبي أو الجمعوي. كما أننا قد نلتمس لهم العذر بحكم أن فقرهم “وكاد الفقر أن يكون كفرا” هو من دفعهم لأن يصبحوا دجالين ونصابين وتجار دين. فهم في نهاية المطاف ضحايا نظام اغتنى بتفقير المواطنين ولم يخلق لهم الأجواء اللازمة لمتابعة التعليم… وكذلك ضحايا لكل مواطن يدعم عيوبه وإخفاقاته ولا يستنكر انزلاقاته وسياساته الفاشلة.
فهؤلاء وأتباعهم هم حصاد ما زرعناه بالأمس من سياسات. إن كنا نحن قد حظينا بظروف سمحت لنا بالارتقاء ورؤية القليل من النور، فمن تحتنا أناس لم يجدوا السلالم لكي يرتقوا ويخرجوا من الظلام الكاسح الذي يعيشون فيه. بالتالي كفانا من مركزية الذات ولنكن شيئا ما أكثر انفتاحا وتفهما لواقع الغير. فالعقاب ضروري لمواجهة ما ارتكب من مخالفة للقوانين لكن مع مراعاة ما يعيشونه من جهل. فأن يتسبب النظام في انتشار وكذا نشر الجهل ثم ينزل على الجاهل أشد أنواع العقاب بسبب جهله، فهذه ليست بعدالة بل جهالة.
أما الأغنياء الذين يمارسون الدجل السياسي أو الحقوقي لكي يغتنوا أكثر إما عبر الوصول للسلطة أو عبر الحصول على دعم اللوبيات الخارجية التي تقدم الدعم لكل من يروج لأفكارها ويدافع عن توجهاتها السياسية، فلا عذر لهم… وبما في ذلك الجهات الحقوقية التي تكثر من رفع الدعاوى ضد الإسلاميين وترفع لمموليها وداعميها تقارير كلها مغالطات لترفع من قيمة الدعم التي تتلقاه من الخارج.
كمال ازنيدر
(*) كاتب إسلامي