هود الشعيبي يكتب: الجامعة المغربية أصبحت معملًا لإنتاج الثوار لا المفكرين

هود الشعيبي

هود الشعيبي

في العقود الأخيرة أصبحت الإجازة بالجامعة المغربية مثل رخصة القيادة، الكل يحملها ويتباهى بها، يقابلها غياب السيارات و«ارتفاع أسعارها»، مما يجعل الكثير من الشباب يكتفي بـ«رقم 11» الذي يعد السبيل الوحيد للتحرك، في حين تجد البعض الآخر بدراجة هوائية أو نارية في أحسن الظروف، أما أصحاب السيارات فهم قلة قليلة فازوا بها عن طريق عرق جبينهم، أم أنهم «ورثوها عن آبائهم».

لا يختلف اثنان على أن الجامعة المغربية في السنوات الأخيرة أصبحت مقبرة للتلاميذ الصاعدين، وعذابا للمسجلين، وماضيًا أسود للمجربين، الكل يتخوف من الولوج إلى الجامعة، والآباء يوصون أبناءهم بالابتعاد عنها، أصبحت كالموت الذي لا بديل عنه، قلما تجد اختيارًا آخر سوى بعض المدارس والمعاهد المرهقة.

إن الجامعة اليوم في المغرب أصبحت مركزًا لإنتاج العاطلين الذين يحملون شهادات عليا في مواجهة شبح البطالة، أفواج تقدر بالآلاف تتخرج كل سنة في غياب استراتيجية واضحة المعالم لاحتضان هذه الشريحة من المجتمع، التي تُعد قنبلة موقوتة ليس لديها ما تخسره سوى حياة بدون معنى.

لا بد من الوقوف قليلًا على نقاط ضعف الجامعة المغربية بصفة خاصة، والفرانكفونية بصفة عامة، والتي جعلت من المفكر جوستاف لوبون يراها «قلعة لإنتاج الثوار» لا المفكرين والباحثين.

نبدأ بغياب الرؤية العلمية الواضحة في مناهج العمل داخل الكليات، مما يجعل الفشل مصيرًا حتميًّا، فما زلنا نشاهد محاولات للإصلاح، تبقى ذات بعد «سياسي»، لا ذات بعد «استراتيجي»، ولعل خير دليل على كلامنا هو اعتماد نظام «الأسدس» سنة 2003، أي: إجازة، ماستر، دكتوراه، وهو نظام ممنوح أو منقول من الجارة فرنسا، بوصفه، في ذلك الوقت، كان من بين أبرز الأنظمة التعليمية تقدمًا، وهذا ما دفع المغرب لتنقيل «العنوان» والهيكل التنظيمي في غياب التخطيط الاستراتيجي العلمي الذي يخرج من رحم خصوصية البلد السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية والبيئية.

من خلال نظرة بسيطة وفوقية يظهر لك الخلل الواضح والجلي، وذلك في ظل وجود شُعب لا يوفر لها أي حيز ولو قليل في سوق الشغل، مثل شعبة الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات. هذه العلوم الإنسانية والتجريبية الأساسية داخل الجامعة التي تلقى اهتمامًا باهتًا من طرف المؤسسات العمومية منها أو الخاصة، باستثناء مهنة «التعليم» التي أصبحت بدورها قبرًا لا مفر منه، تحفره بيدك، وبعدها تناضل من أجل العودة إلى الحياة.

قد نجد بعض الاستثناءات في هذه الشُّعَب، وأقصد بذلك بعض الفئات التي تتفوق في دراستها، وغالبًا ما تجد لنفسها فرصة للهجرة ليستفيد منها الإنسان الغربي، بوصفه محتضنًا لأبناء دول الجنوب، أو أقصد زبدة الدول المتخلفة.

ففي ظل العدد المهول لخريجي الجامعات في كل سنة، والذي يقابله قلة عدد المناصب المفتوحة من طرف الدولة، مما يثير تساؤلًا عن مصير هذه الفئة، ما محلها من هذا الوطن؟

هذه الفئة المتخرجة أصبحت معقلًا للثوار والحاقدين على النظام، الشيء الذي يطرح تساؤلًا كبيرًا عن مدى استفادة الدولة من هذه الفئة، وعن مدى استفادة هذه الشريحة كذلك من الدولة نفسها، في الوقت الذي لا يجد خريجو الجامعة مجالًا واسعًا للعمل، كما أن الدولة تثقل نفسها بمزيد من المعارضة الجديدة التي تتميز بها هذه الفئة، أي إننا ندخل في منطق خاسر بدون أي رقابة وتتبع من طرف الساهرين على هذا المجال.

ولعل تشجيع الدولة للتكوين المهني في السنوات الأخيرة، أبرز دليل على فشلها في احتواء الكم الهائل لخريجي الجامعات، وكذا المشكلات الكثيرة التي تكبد الدولة خسائر هائلة، خاصة على المستوى السياسي والاجتماعي.

في السياق نفسه نجد ضعفًا كبيرًا في مستوى الطلبة، وذلك نظرًا إلى ضعف التكوين، ومحدودية الطالب الراجعة لمحدودية الآفاق؛ مما يجعل أغلب الطلبة يكتفون بالاستماع فقط، بدلًا من القراءة المتأنية، وذلك غالبًا ما يكون راجعًا للمقاربة العمودية المعتمدة في الدراسات الجامعية، نظرًا إلى تسلط الأساتذة، وهيمنة الفكر الأحادي؛ مما يجعل من التكوين الجامعي محطة لتنميط الطلبة وتجميد أفكارهم، بدلًا من توسيع مداركهم، وتربيتهم على النقد والتحليل بدلًا من الحفظ.

صار الحفظ آلية أساسية داخل المنظومة التعليمية، سنوات من التربية على الاستظهار وهضم الدروس من الابتدائي إلى الجامعي، تقنية أكل عليها الدهر وشرب، ما تزال متجذرة في نظامنا التعليمي، هذا ما يجعل من الجامعة المغربية تنتج لنا أشخاصًا يحاربون الأمية فقط، بل يمكن القول إنها تنتج لنا «أفرادًا» بشواهد عليا.

الاجترار الأكاديمي وفضفاضية الشُّعب مشكلة أخرى، فلطالما درسنا نظريات واجتهادات ومحاضرات شفهية، وفي المقابل لا تجد أي شيء من ذلك على أرض الواقع، فيتخرج المُجاز، ويجد نفسه أميًّا في مجال العمل، لم يدرس شيئًا واحدًا مما يوجد في سوق الشغل، مما يجعله حائرًا في مصيره ومستقبله بدون أي ضمانات تذكر.

يمكن أن نجمل هذه الاختلالات بصفة عامة في فشل المنظومة التعليمية المغربية ككل في خلق تعليم ذي جودة ومواكب لتطورات العصر، هذا لا يعني أن هناك مشكلة في هيكل أو مؤسسات الجامعات المغربية بقدر ما هو فشل على مستوى التطبيق، فلطالما عانى المغرب من هذه المشكلة، فنجد المناهج التربوية تكتسي طابعًا مثاليًّا في هيكلها، بينما نجد هوة كبيرة بينها وبين المستوى التطبيقي، الشيء الذي يطرح العديد من التساؤلات عن ما مشكلة المغرب مع الجانب النظري؟ ولعل دستور 2011 يبقى خير دليل على كلامنا.

ولكي لا ننسى أو نغض النظر عن جانب مهم في المرحلة الطلابية خاصة داخل الجامعة، أقصد بذلك الجانب النضالي الذي أصبح يأخذ حيزًا كبيرًا في هذه المرحلة عند الطلاب، بل أصبح روتينًا يوميًّا لدى بعض الفصائل الطلابية، وذلك نظرًا إلى كثرة المشكلات داخل الكليات؛ مما يجعل السنة الجامعية مليئة بالمعارك النضالية الطويلة، والتي غالبًا ما تكون بقيادة «أوطم» المنظمة العتيدة داخل الجامعة.

هذه التجربة التي لا بد لأي طالب داخل الجامعة أن يمر بها، مما يجعل من هذه الأخيرة محطة لتكوين غير مهيكل، إضافة إلى التكوين الأكاديمي، وهو التكوين النضالي التدافعي لدى الطلاب، هذا ما يجعل من الجامعة بؤرة خطيرة لتكوين الثوار والمعارضين، خاصة مع ضعف الآفاق وكثرة المشكلات الطلابية، ولعل آخرها الطرد التعسفي الذي تعرض له ثلاثة مناضلين بجامعة ابن زهر بأجادير، الشيء الذي يبين أن الدولة تراقب بحذر أحداث الجامعة، بل تتدخَّل أمنيًّا لا أكاديميًّا في بعض الأحيان، وهذا الذي وقع لطلبة أجادير.

كل هذه الوقائع تجعل من الجامعة تهديدًا مستمرًّا للدولة كونها تنتج نقابيين وسياسيين متمرسين في النضال، أكثر من إنتاجها للمفكرين والباحثين، فضعف المنظومة التعليمية يقابلها إنتاج ضعيف في البحث العلمي، كما أن كثرة المشكلات الجامعية تقابلها قوة الإنتاجية النقابية والسياسية.

تمخض الجبل فولد فأرًا، وتمخضت الجامعة فولدت لنا بكالوريوس، نظام جديد في الاسم والهيكل، أما كنهه وجوهره فيغيب عنه البعد العلمي.

وانطلاقًا من السرعة الكبيرة التي أُنزل بها هذا النظام، خاصة بعد زيارات الوزير أمزازي لبريطانيا، يبدو أن هذا المشروع يحظى ببعد سياسي أكثر من كونه بعدًا استراتيجيًّا، وذلك في غياب الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لتطبيق مشروع بهذا الحجم، والذي يمس قطاعًا أكثر من حساس داخل المجتمع.

عدم إشراك الفئة المعنية بهذا النظام، وأقصد بهذا الطلبة والتلاميذ المقبلين على هذا النظام، وتغييب دور الأحزاب في المساهمة بدورها في هذا المشروع، وغياب تقييم واضح المعالم للنظام السابق، يجعل هذا التقويم المتمثل في نظام البكالوريوس مجرد اسم مستور غايته سياسية أكثر من كونها استراتيجية، في ظل اقتراب الانتخابات التشريعية.

وبالتالي فسياسة الدولة في «بَوْلَسة» الجامعة، وتوظيف المقاربة العمودية، وتبخيس الشهادة العليا، لا يزيد الأمر إلا تعقيدًا ومشكلة، فتزايد المُجازِين، تعني مزيدًا من الثوار الذين ينتظرون الفرصة المناسبة.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

مقالات ذات صلة

علق على هذه المادة

التعليقات تعبر عن رأي صاحبها فقط ... كما يرجى الالتزام بالأداب العامة

+ 3 = 12