▪︎بقلم نود الدين ثنيو > كاتب وأكاديمي جزائري
نَعُود في هذا المقال إلى موضوع “هزيمة الدين والدولة في الجزائر”، مقالنا السابق، في ضوء ما أثاره من نقد وأسئلة. ونبادر إلى التوضيح، أن المقال في ذاته ليست له أية صلة ولو واهية بالتعرض إلى المؤسسات الطرقية، بما هي مظاهر لحالة تَدَيّن كان عليها المجتمع الجزائري، في لحظة تاريخية ما قبل التاريخ الحديث والمعاصر.
فالمسألة التي عرضها المقال السابق، أن عملية تأهيل النظم الطرقية في اللحظة الراهنة، تتم في سياق بناء تكوين دولة العصابة، في عهد الرئيس المخلوع والمهزوم بوتفليقة، ولا تزال مستمرة، آخذة التمكن والحضور الرسمي، ومكانة الوساطة بين الله والسلطة. تلك هي الوضعية التي استُدْعِيت إليها الزوايا والأضرحة والمراقد والاحتفائيات الموسمية، التي ترمي كلها إلى شفاعة رجالات النظام، بعد الخيبة والإخفاق في بناء دولة المؤسسات المنزَّهة عن الأفراد والعائلات والعشائر والنظم الطرقية وأعيان الجهات.
في اللحظة التي تعاني فيها السلطة القائمة، من حالة ترَهّل سياسي، ونفاد كل ما في جعبتها من قوة معنوية، ومن مصداقية ورصانة، آل الوضع برمته إلى استدعاء شيوخ الطرق ونظمها و”سَحَرَتها” إلى التَّغْطية على عجز النظام من إسعاف نفسه من السقوط المتواصل نحوالحضيض. فقد لاذَ رجال الحكم إلى التعلق بالأدعية والتمائم والطلاسم والخزعبلات والشطحات الصوفية، و”القراءة التكرارية للقرآن” كأفضل اعتراف يشهد لصاحبه الوقار وحسن السيرة والأخلاق والتقوى. ومشهد صلاة رئيس الدولة إلى جانب الشيخ الإمام، يعبّر رمزيا ومعنويا عن الحالة التي وصلها الدين بعد انهيار الدولة. من جملة الأسئلة التي رافقت المقال السابق حول “هزيمة الدين والدولة في الجزائر”، سؤال يرى أن استدعاء النظم الطرقية على هذا النحو، الذي جرى في سياق بناء “دولة بوتفليقة” ورجاله قد تم على النحو الذي جرى زمن الاستعمار، عندما استنجدت السلطة الاستعمارية برجال الطرق و”مَرَابطِيها” وأعيانها في النواحي والفيافي والصحارى والأرياف، تشكلت كلها لتكوِّن وضعا طيِّعًا ينساب منه الوجود الاستعماري ويتمكن في البلد. فقد كانت حالة تدين الأهالي، تشبه كثيرا الديانة الوثنية، على ما كشفه العسكريون الفرنسيون وأعوانهم الإداريون والعارفون بالإسلام والشرق. والوضع ذاته عبّر عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي بالعَفَن أو القابلية للاستعمار، لأن طريقة حياة الأهالي ونمط تَدَيّنهم يوحي ويغري بالاستعمار من أجل إسعافهم أو استغلالهم. والحقيقة، على ما نعرف من خلال تاريخنا العربي، أن تجليات ومظاهر الطرقية هو العنوان الكبير على تدهور الحضارة الإسلامية وخروجها من التاريخ لفترة طويلة، إلى أن ظهرت الحركة الإصلاحية مع مطلع القرن العشرين، التي رامت تجاوز النظم الطرقية ونمط فهمها للدين الإسلامي ومعايشته، إلى عصر جديد يتوافق مع نظام الدولة والحضارة الإنسانية، القائمة والمجتمع الدولي المتعدد الثقافات والديانات. وتلك هي حقيقة صلة النظم الطرقية بالتخلف وبالاستعمار، التي عكست حالة من “الوثنيات” توحي بالاستغلال على ما يفعل “نظام مفلس” قائم على الفساد والبحث عما يحميه قبل موعد الحساب، لأن الحساب في الدنيا غير وارد على ما تزعم دائما العصابة. وعلينا فقط، أن نتصور أن استغلال طرق التصوف وشيوخها، لم يتم بالطريقة نفسها التي جرت في العهد الاستعماري، لأن طبيعة التاريخ لا تتوقف عند لحظة، بل دائما تتعدى إلى ما هو لاحق. ونحن نعرف أن هزيمة الدولة الجزائرية تمَثَّل خاصة في إعدام البعد المستقبلي، فهي تعيش من يوم إلى يوم ما يؤكد سقوطا متواصلا نحو درجة الصفر الذي يستدعي فعلا التلاوة المباركة من آيات الذكر الحكيم.
ولمزيد من التوضيح، أن موضوع هزيمة الدين في الجزائر على النحو الذي تصرفت به السلطة القائمة، ليس مناسبة إطلاقا للطعن في قادة وشيوخ الزوايا، بقدر ما هو نقد لاذع للسلطة الفاسدة، التي ورطت الدين أيضا في عملية تعميم الفساد، كأفضل تقية لمواراة فسادها السياسي والمادي، وتبريره من الناحية الدينية والرمزية والأخلاقية. وإذا أردنا أن نقيّم ما يقابل ويؤصل ظاهرة استدعاء النظم الطرقية لإسعاف النظام السياسي/العسكري في العهد الاستعماري، نقدم هذا الشاهد الذي عاشه المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون، عندما كان يحارب بعض ما كان يتعارض مع الشرف والكرامة، والسعي إلى الإنسان الكامل. فقد كان ماسينيون رجل دين قبل أن يكون رجلا عسكريا وإداريا وسياسيا. ومن جملة المسائل التي كان يندد بها ويحمّل الإدارة الاستعمارية على التعافي منها، مسألة استغلال رجال الطرق وشيوخ الزوايا من أجل مساعدتها على تمرير قراراتها الاستغلالية، وغير الأخلاقية. فقد كانت الإدارة الفرنسية تحابي رجال الدين والزوايا والطرق وتمكنهم من رخصة أداء الحج لأنها كانت تعرف أنها العبادة التي “تغسلهم” من الآثام والجرائم والمخالفات والمحرمات. فقد كان قوام عقد المقايضة بين الإدارة الاستعمارية وشيوخ الزوايا هو اعتماد الإسلام الطرقي إسلاما رسميا، فضلا عن توفير سخي لإمكانية تطهير النفس من شرك الإدارة، بأداء مناسك الحج كرخصة مقابل صكوك الغفران. وعليه، فإن مسألة الاستنجاد بالنظم الطرقية، كدين للسلطة هو نكوص مروّع ومفزع لأنه ناجم عن صفقة مريبة بين أطراف مرابية، لا تدرك من الدين حقيقته ولا من الأخلاق أصولها، لسبب بسيط وهو، أن ابتهالات وتلاوات المريدين لم تعد تتناسب ولا تتماشى مع الخطاب السياسي الرصين، المعبر عن لحظة وجود الأمة بكل زخمها وكثافتها وقوتها المادية والمعنوية، على ما كانت أو أرادت أن تكون عليه الحركة الإصلاحية الجزائرية، التي سوّغت وجودها منذ البداية كحركة مناهضة لمظاهر الشرك، على ما كان يرى المصلح مبارك الميلي.، كما بررت مهمتها في البداية والسياق والمقصد أن تتجاوز النزعات المذهبية والفرق وعقليات القبيلة والعشيرة، والسمو بالإسلام إلى مستوى الدولة التي تأبى بطبيعتها وطريقة تكوينها الفهم الطرقي للدين.
والخطر، كل الخطر هو وجود جهة روحية توسمت فيها دولة فاشلة تنفيذ أغراضها في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضا. وعندما تُنَصَّب هذه الجهة في صلب المؤسسة السياسية والعسكرية يؤول الأمر كله إلى زوال حتمي، لأن الجزائر، في هذه الحالة تظهر بلد المفارقات والتناقضات: تعيش على ريع الثورة الجزائرية، وتعيش على ريع الدين الطرقي، وتدار من قبل سلطة عسكرية في وقت كل العالم يعيش فيه وفق أنظمة سياسية ومدنية، وليس أخيرا، أن تعيش بعائق زمني وهو غياب المستقبل، في الوقت الذي كل العالم يعيش مشرئبا بأعناقه إلى المستقبل قبل الماضي والحاضر. وذلك هو قدر الجزائر: أن تعيش مكرهة الأضداد والمفارقات.